الموقع الرئيسي لأهالي تللسقف في أستراليا TELLSKOF - www.tellskof.yoo7.com


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

الموقع الرئيسي لأهالي تللسقف في أستراليا TELLSKOF - www.tellskof.yoo7.com
الموقع الرئيسي لأهالي تللسقف في أستراليا TELLSKOF - www.tellskof.yoo7.com
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

جميل فرنسيس زورا و الجزء الثاني من هدوء العاصفة

اذهب الى الأسفل

جميل فرنسيس زورا و الجزء الثاني من هدوء العاصفة  Empty جميل فرنسيس زورا و الجزء الثاني من هدوء العاصفة

مُساهمة من طرف ناظم هرمز كورو الأربعاء 03 يناير 2018, 7:30 am

من الذاكرة  
الرهان الخاسر
 
كان في تلك الأيام الخوالي  ، وفي زمن الحصار الجاثم على بلدنا ، حيث كانت فاقة ،  والحاجة الماسة تطال كل أبناء شعبنا ، حينما كان راتبي لا يساوي ثمن طبقة بيض واحدة ! .... لذلك فكرت أن اربّي الدجاج في فسحة خلف داري ، لكي استفاد من بيضه ولحمه ...  وفعلا ذهبت إلى المدينة واشتريت عدد من البيض الملقح مع دجاجتين حاضنتين للبيض .. ، وانتظرت بفارغ الصبر ، حتى فقس أغلب البيض ، وكان من بينها أربعة ديكه صغار ... ، وبمرور الأيام لفت انتباهي أن احد تلك الديكة الأربعة بدأ ينمو بسرعة خلافا للديكة الثلاثة الأخرى .. وأصبح من القوة والشراسة ، بحيث يتغلب على كل الديكة في القرية وكان يهاجمها ويصرعها بسهولة ، وهي تهابه وتهرب من أمامه ، ولا يسمح لها بالاقتراب من الدجاجات ... ،  لذلك فكرت أن أراهن عليه في المدينة واجني منه المال ..
وهكذا كنت آخذه إلى المدينة كل يوم  جمعة واجني من المراهنة بعض الدنانير .. ،  حيث كان ديكي هو الغالب دائما .
وفي إحدى الجمع جاءني احد المراهنين واتفق معي إن ينازل ديكه مع ديكي في الجمعة القادمة ، لقاء مبلغ مائه دينار .. وكان ذلك المبلغ كبيرا في حينها ، ولما كنت واثقا جدا من ديكي القوي ، وافقت على الفور... ، وخلال سبعة أيام كنت أطعم ديكي أجود الطعام من الحبوب وقطع من اللحم ، واعتني به ليوم النزال حتى جاء يوم الجمعة المنشود ، وذهبت به إلى مقهى النزال ، ورميت بديكي الأحمر  في حلبة النزال المكتظة ،  والشبه مظلمة أمام ديكه الأسود ، فبدأ العراك العنيف ، وبسهولة بدا ديكي يتغلب على ديكه الأسود  وينقض عليه بضربات قوية متلاحقة .. وبدأ ديكه يترنح .. ، وهنا تدخل صاحب الديك الأسود متوسلا أن أوقف النزال لكي يصليّ على ديكه في الغرفة المجاورة ، فوافقت مستهزئا من هذا الطلب .. ،  وبعد لحظات عاد مع ديكه وبدا العراك بين الديكين من جديد .. وهكذا انقض ديكي الأحمر مرة أخرى على ديكه الأسود بضربات متلاحقة على رأسه ورقبته حتى أدماه ... ، ثم تدخل صاحب الديك الأسود متوسلا ، ليوقف النزال وليصلي على ديكه مرة أخرى ويرشقه بالماء ، فوافقت مرة  أخرى بعد تردد  وعلى مضض ، حتى جاء بديكه الأسود ورماه أمام ديكي الأحمر ، وبدا النزال من جديد ، لكن الغريب في الأمر أن ديكه الأسود بدأ يتغلب على ديكي الأحمر....! وبدا ديكي منهكا يضعف أمام ضربات ديكه الأسود ...، والدماء تتدفق من عرفه ومنقاره حتى سقط ديكي تحت أقدام ذلك الديك الأسود , وبذلك خسرت المائة دينار .. وأصبح ديكي على شفا الموت فعدت الى بيتي ، مندهشا أجرّ  أذيال الخيبة والحسرة والندم ...
وبعد فترة ذهبت الى سوق الدجاج وحكيت قصتي للرجل الذي أشتري منه البيض  والدجاج ... ، فضحك الرجل كثيرا لسذاجتي وعدم معرفتي .. وقال لي ( يا غشيم .. إن الرجل لم يكن يصلي على ديكه ، بل كان يبدل ديكه الخسران بديك أخر شبيها له دون ان تعلم في كل مرة )....
مذكرات رجل ٌميت ...

ها هو يستعيد وعيه ، بعد غيبوبة طويلة ..، لا يعلم كم  مر من الوقت ،  وكم من الأيام انقضت ،  وهو فاقدا للوعي والحس والإدراك والحواس ، بسبب استنشاقه غاز الأعصاب (السي فور\ c 4) في إحدى المعارك  التي استخدم فيها السلاح الكيماوي في جبهة القتال ..
بصعوبة كبيرة بدأ  يحرك يده اليمنى ويتشبّث بالحلقة الجلدية المتدلية من أعلى السرير ، كي يرى النور من النافذة التي في جانب سريره ،  وهو   راقد في  الحجرة  الصغيرة المعزولة التي أودع فيها منذ أيام معدودات ..،  فهو لا يستطيع الكلام ، ولا الحركة ، ولا يُعرف له حتى اسما .. هو جنديا مجهولا  نصف ميتا ، أودع هنا ليموت ...  ، إنها الحرب ، والحرب وليمة الموت .... ذات ظهيرة تناهى إلى مسامعه صوت لغط وصراخ في الشارع القريب المحاذي للمستشفى ، وضجيج  منبه السيارات متقطّع ... ،  فمد يده الواهنة..،  متشبثا بالحلقة الجلدية محاولا أن يجلس على مؤخرته ليستطلع الأمر ، وليشرأب برأسه من النافذة .. ،  فإذا بمجموعة من الرجال والنساء يسيرون في موكب ، يتقدمهم كاهن ،  يشيعون جنازة لشهيد سقط في المعركة الأخيرة الدائرة بضراوة الآن ..، فمثل هذه المشاهد أصبحت مألوفة لدى الشارع ، خاصة بعد دخول الحرب التي يخوضها البلد عامها الثامن ...، لكن الغريب في الأمر ، أن هناك صبّيان  يتقدمان الموكب ، يحملان لافتة كتب فيها ( الشهيد البطل جميل فرنسيس زورا ... استشهد في قاطع....   ) !! فتجمدت أوصاله وجف الدم في عروقه ، وهو يشاهد أمه  تصرخ وتلطم وجهها ، وإخوته الصغار يبكون ،  وكل أقرباءه .. وأصدقاءه .. وكل الناس الذين يعرفونه يسيرون في موكب جنازته ...!! لكنه  حاول الصراخ ،  يا ناس .. يا عالم .. ها أنا هنا .. أنا جميل فرنسيس .. أنا  لم أمت ...  تلك الجثة التي تحملونها ليست جثتي ... انظري الي يا أمي .. انا هنا هنا هنا .... ، لكنه  لم يستطع أن يُصدر غير صوتٍ مبهم ، وانين ٍمكتوم  .. ، فما كان من الممرضة الخفر ،  والتي لاحظت قلقه وانفعاله إلا أن جاءت  بحقنة الفاليوم ، وحقنته  في الوريد .. فغاب عن وعيه ... والى إشعار آخر !! .. وفي اليوم التالي استفاق من غيبوبته ، وفتح عينيه ، وبدأ يتحرك يمينا ويسارا ، ويحرك يده اليمنى ، إلا انه ما زال غير قادرا على الكلام ، أو حتى الكتابة ، لأن إصابته كانت مؤثرة  تأثيرا مباشرا على مخه  ، إلا انه  لم يفقد ذاكرته ، ونجا من الموت بقدرة قادر .. !!، ولأنه في الإصابات الكيماوية ، هناك محطات تطهير في الجبهة ، وان المسعفين في هذه المحطات ، يقومون بتجريد المصابين من كامل ثيابهم ، وينزعون عنهم حتى قرص التعريف ، أي قرص الهوية المعدني الخاص بهم ، بحجة تلوثه ، وبسبب كثرة أعداد المصابين ، قد  يَصبح البعض من هؤلاء المصابين مجهولي الهوية ..!  ومن ثم ينقلون إلى وحدات الميادين الطبية ، ومنها إلى المستشفيات في داخل المدينة ، والتي تعج بمئات الجرحى والمصابين .. ،  وبما أن هناك معارك طاحنة تدور في جبهات القتال  ، وقد تستمر معركة ما لأيام وليال  طويلة ، وأشهر ، فأن الكثير من الجنود يُعتبرون في عداد الشهداء أو المفقودين .. أما صاحبنا قد أصيب في معركة سابقة ،  وبسبب مجهولية هويته ، تم نقله  من مستشفى إلى آخر حتى آل به المطاف إلى هذا المستشفى .... وعندما رأى الناس يشيعون جنازته ، انتفض بقوة .. حاول الصراخ .. أخرجوني .. أخرجوني من هنا .. لكن صوته كان مكتوما ، لأنه كان مريضا ،  مهملا ، مجهول الهوية ، ميئوسا من حالته المرضية ، يعيش على بعض العلاجات والأمصال والمغذيات التي تعطى له .. ولا احد من ذويه أو أقربائه  يعلم بوجوده هنا ، ولا من يأتي لزيارته ، غير الطبيب المقيم الذي يزوره بين يوم وآخر ، ويُشرف على علاجه ، فهو مريض أصم أبكم ،  مشلول الحركة ،  غريب لا احد يعرفه...   ، استمر  به الحال هكذا ، وكلما حاول النهوض والحركة ، فيأتي من يزرقه بالمخدر ، فيشل حركته بالكامل ، ثم ينام نوما عميقا ...! عندما استعاد جزءا من عافيته ، وبدأ يدرك الأمور شيئا فشيئا ، عرف اللعبة جيدا .. عليه إذن ، بالهدوء والتزام الصمت ، كي لا يُزرق بالمزيد من المخدر ، وهكذا يوما بعد يوم استعاد بعض  ملامح وجهه  الذي كان مشوها ، لا بل كان يحاول أن يتعلم على النطق واستعادة  القابلية على الكلام ، إذ كان يصدر بعض الأصوات كلما سنحت له الفرصة حينما يتأكد  انه وحده ولا احد يسمعه  ..، لكن أهله وأقاربه كانوا قد دفنوا جثته في المقبرة الخاصة بهم ، وأقاموا له صلات الجنازة التي تليق به ، حسب الأعراف الأصول  ...!!،  وكذلك  الأطباء قد يئسوا من حالته ، فلم يعاودوا زيارته  ، والاهتمام به ، لكنهم لم يقطعوا عنه العلاج .. فماذا يعني جندي واحد مجهول مصاب إصابة كيماوية ،  فاقد الملامح ، مشلول الحركة ، مقابل العشرات ، لا بل المئات من الجرحى من الجنود والضباط الذين لديهم من يأتيهم ويزورهم كل يوم ، ويدفعون البقشيش بسخاء للعاملين في المستشفى ...! فهو إذن  ذلك الميت الحي .. !!
وذات نهار كان قد استعاد بعض من الحركة والقوة ، وتمكن من لفت انتباه الممرضة ، عندما تشبث بتلباب صدريتها  البيضاء  .. ملابس ملاك الرحمة ، ولكنها بدلا من أن تنتبه لما يريده منها ، هرعت مسرعة بالحقنة المخدرة وزرقته في الوريد .. فدخل في غيبوبة عميقة  فاقدا وعيه مرة أخرى ..! أراد  فقط أن تأت بورقة وقلما ليكتب شيئا ، ويعرّفها باسمه ، لكنه الجندي المهمل ، لا احد يهتم به ....!!!  في صباح اليوم الثاني ..، عندما كان قد نهض من نومه العميق ، ولما دخل عليه المنظف ، كي ينظف الحجرة الصغيرة القذرة ، فانتبه لحركته وأنينه ، واندهش عندما عرف انه يريد أن يكتب شيئا .. لكن                                         ا لمنظف كان يصرخ في وجهه .. هل صحيت من النوم ..؟ ماذا ..؟ ماذا تريد .. ؟ ألا تريد أن أنظف لك الغرفة ...؟ ! لكنه ظل يجوس وينظر بنظرة توسل ، ويئن في فراشه ، كي يساعده ، وان يأتي بورقة وقلم .. وهو يحاول النهوض من مكانه .. ، فأدرك المنظف ، انه يريد ورقة وقلما ، فدنا منه مستعلما .. من أنت ؟؟ تكلم .. مَن .. ماذا تريد .. تريد ورقة ًوقلم ؟؟ .. ، عندما أعود غدا لأنظف الغرفة سأجلب لك ورقة وقلم حتى ترسم بها .. لكنه لم يرضى بكلام المنظف ، فحاول أن ينتفض من مكانه بقوة ، وهو يتوسل بعينيه ، حتى  رق قلب المنظف  ، وأجاب لا بأس .. لا بأس سأجلب لك ورقة وقلم .. لكن ما الفائدة منك ، أنت ليس من وراءك حتى قرش بخشيش .. انتظر سأذهب إلى الطبيب ، واطلب منه ورقة وقلما .. انتظر لحظة .. غادر المنظف الحجرة ، قاصدا الطبيب المقيم .. دكتور دكتور ، المريض المشلول في الحجرة المعزولة  يريد ورقة وقلم ، لكن الطبيب لم يصدق كلام المنظف البسيط ، ولم يهتم للأمر ، فقال دعه ، فهو كاذب .. لا تصدقهه .. انه يكذب ، لا وقت لدي  !!عاد المنظف أدراجه إلى الحجرة ، ليأخذ أدوات التنظيف ويذهب .. ثم قال ... الدكتور يقول أنت كاذب .. كاذب .. عندما كان يهم بالخروج .. تحرك المشلول محاولا الانتفاض من فراشه مرة أخرى ، وبقوة ، واصدر صوتا أشبه بالأنين .. فأدرك المنظف أن هناك امرأ ما  يحصل .. فقال في نفسه ، لأذهب وآتي بورقة وقلم ، لن أخسر شيئا .. خرج من الحجرة مترددا ، فالتمس من احد المضمدين أن يعيره ورقة وقلما ، فجاء بها إليه ، وثبتها على الحائط المجاور ، فكتب بخط متكسر .. أنا ... أنا .. جميل فرنسيس .. أنا..... !!  أنا ... من البصرة .. اخذ  المنظف الورقة من يده ، وذهب بها إلى الطبيب المقيم ، والذي كان ما زال يحتسي الشاي في غرفة الاستراحة  الجانبية مع الممرضات ، قائلا دكتور .. دكتور .. المريض الميت كتب هذا .. لم يصدق الطبيب المقيم ، ولم يعر له أدنى اهتمام ، فتناول قطعة من الكعك من الصحن الذي على الطاولة وقضمها .. وارتشف بعدها رشفة من قدح الشاي .. لكن المنظف نفذ صبره ، وبدأ يتوسل الطبيب أن يرافقه إلى الحجرة التي يرقد فيها المريض مجهول الهوية .. فقام الطبيب من مكانه على مضض قاصدا المريض ، وتبعه المنظف ، وهو يقص له كيف إن المريض بدأ يتحرك ، وكتب هذه الكلمات على  قصاصة  الورق .. لما وصل الطبيب بصحبة المنظف ، كان المريض قد استجمع كل قوته ، ورفع يده اليمنى ، واصدر صوتا قويا أشبه بالأنين .. فقال الطبيب المقيم .. هل حقا اسمك جميل فرنيسيس  ..؟  هل أنت كتبت هذا ..؟ اهتز المريض بقوة ، وحرك معه السرير ، وهو يحاول أن يومئ برأسه ، ورفع يده اليمنى .. وأشار بالإيجاب .. اندهش الطبيب ، واقترب من المريض ، يدفعه الفضول .. فقال .. وماذا تعرف بعد ..؟ هل تستطيع الكلام أو كتابة شيء آخر يا ترى ...؟ أجاب المريض بالإيجاب .. ، فأخرج الطبيب دفترا صغيرا من جيبه ، ووضع القلم في يد المريض .. وساعده في الكتابة .. فكتب الميت الحي بخط متكسر .. أنا .. أنا .. جميــــــــل فرنسيــــــس .... البصـــــرة .. فكر الطبيب مليا .. وقال .. ولكن أين أجد من يعرف هذا الجندي المجهول .. ؟ ثم طرأت في باله فكرة جهنمية .. فقال .. لقد وجدتها ... ! لماذا لا نبلّغ الكنيسة ...؟ لربما أحدا هناك يعرفه ... ثم قال .. اسمع أيها المنظف .. خذ هذه الورقة .. واذهب بها إلى الكنيسة القريبة من السوق .. وربما تجد هناك أحدا ، فأعطه هذه الورقة .. وقل إن هناك مصابا  بهذا الاسم ، قد  استعاد وعيه .. فلبربما احد يعرفه .. ويأتي إلى هنا .. اخذ المنظف الورقة من الطبيب ، متذمرا ، وهو يفكر ، كيف انه ورّط نفسه في مهمة لا نفع ولا فائدة منها .. ولكنه ذهب إلى الكنيسة على مضض ، وعند باب الكنيسة وجد شابين هناك .. واستفسر منهما عن مكان وجود الكاهن .. فأشارا أحدهما له بطارف إصبعه ،  فدخل على الكاهن واخبره بموضوع المريض المجهول الهوية ، وقصة الورقة التي أحضرها معه .. فاندهش الكاهن من كلام المنظف .. وقال كيف ذلك ، وأنا الذي دفنت جثته قبل اقل من أسبوع ..! وأقمت له مراسيم الدفن والجنازة .. !! لكن الكاهن انتفض من مكانه ، وهرع مسرعا ، ولما خرج من بوابة الكنيسة كان الشابان ما يزالان لم يبرحا مكانيهما ، وطلب منهما مرافقته إلى المستشفى ، برفقة المنظف الذي أتى بالخبر ، ليتحققوا من الخبر بأنفسهم  قبل أن يخبر أهل المريض ، لربما يكون الخبر كاذبا ..  وهناك وجدوا ذلك المجهول الهوية ، قد استعاد جزءا من عافيته ، وكان الطبيب والممرضات قد نظفوا جسمه من الأوساخ العالقة به خلال مدة أكثر من شهرين من تاريخ إصابته ، فتقدم الكاهن وألقى نظرة على المريض ، وعلى الفور عرفه ، وعرف أهله وأقاربه ، فشكر الطبيب المقيم والمضمدين ، وإدارة المستشفى ، فمد يده في جيبه ، واخرج بعض المال ، وأودعها في يد المنظف الذي استبشر من الفرح .. ثم ذهب واخبر ذوي المريض ، واتوا إليه ، واحتضنوه في الرعاية الخاصة .. وكان يوما بعد يوم يستعيد عافيته .. ومرت الأيام والسنين ، وانتهت الحرب ، وها هو اليوم ينقل لكم هذه الذكرى ....
                               












غـَفـْــــــــــلة ٌ

      إنهُ المساء قد حَلَّ تواً على المدينة ... هَرعتْ مسرِعة ً إلى الطابقَ العلوي حيثُ غـُرفتها المُرتبة والمعطرة بالرياحين كي تُغير ثِـيابها بَـعـد عناء التجوال المضني في أسواق وشوارعَ المدينة الساحلية الرطبـــة .... بدأتْ تنزع عنها ثيابها قطعة تلوَ الأخرى برفق ٍ واعتناءْ ، وتَرمي بها فوق السَرير الكبير الجاثم في وسط الغـُرفة ...، من شـِدة الحرّ الخانق أخذتْ تتخلّص من ثيابها الداخلية الرقيقة الناعِمة الدَبقة ، حتى أصبحت عارية تماماً ... اقتربت رويداً رويداً من المرآة الكبيرة المثبتة على الجدار وهي تتفرسُ وجهها القمَري بـِـتمعن واهتمام ، وتلاحظ تقاسيم جسدها الرخامي الرشيق بنرجسية بالغة .. رفعت يديها ببطيء لتحتضن ثدييها النائمين بوداعة بكلا كفيها ، وهي تتفحصهما وترفعهما للأعلى وتمسدهما بهدوء ... لفت انتباهها بعض خيوط الزمن الآفل خلف عينيها .. آه ... إنها التجاعيد بدأت تظهر ، رغم إنها ما تزال في ريعان شبابها وعنفوان نظارتها … ، ورغم تخطيها الخامسة والثلاثين من سني عمرها ... ، حتى بدا القلق ظاهرا جلياً على سحنات وجهها ، وهي تفكر بمصيرها المجهول وسط مجتمعها القاسي الذي لا رحمة فيه .. وهي الفتاة المتحررة ، الجامعية ، المدللة ، والتي لا تزال تبحث جاهدة ً عن فارس أحلامها ، وفق شروطها ومواصفاتها ومقاييسها المثالية ... انحدرت على خديها دمعتان حارقتان وهي تحاكي نفسها بصوتٍ مسموع .. آه ه ه .. يا لَحسرتي .. ماذا دهاكم أيها الشباب ..؟ هل أصابكم العمى ..؟ هل فقدتم القدرة على التمييز وأنتم تتغاضون عن كل هذا الجمال ..؟ . لكني أعلم إنكم تخشونني وتهابون شخصيتي القوية ..!! خنقتها العَـبرة وأجهشت بالبكاء مرددة ً .. أوغاد .. أغبياء .. كلكم أوغاد ... أوغاد ..، ثم قالت في سِرها وهي تصك أسنانها الؤلؤية .. مـَهما يكُن سوفَ لن أتنازل .. ولن أعرضَ بضاعتي برخصٍ ، سأقاوم رغباتي وأحافظ على عفتّي حتى النهاية .. فلا أحد يستحقني .. لا أحد يستحقني .. ولن أرضى بأيٍ كان ... ، كان هواء المروحة الدائرة في سقف الغرفة قد جفف عرقها تماماً ، فأحست بنسمات باردة تلسع جسدها البض ، وانتبهت لنفسها عارية ، فهمّت مسرعة ً لتتأكد أن أحداً لم يراقبها …. ، لكن ثمة نافذةٌ صغيرة في أعلى الجدار ،  كانت مفتوحة للسماء .. والقمر بدراً ، قابعاً يتلصص عليها بنظراتٍ ملؤها الإعجاب .. مندهشاً من جمالها الأخـــــاذ .....
                                                                                       

                               






من الذاكرة ...
شرق البصرة ... ما بعد اليوم العظيم ....  1987

أمضيت الليل كله متكورا في مقعدي داخل الحافلة ، في طريقي من الموصل إلى البصرة ، ملتحقا  إلى وِحدتي العسكرية ، في منطقة النشوة ، بعد قضاء إجازتي الدورية ، أل سبعة أيام المقررة ... وصلت ساحة سعد الشهيرة  بعد الثامنة صباحا ، مضطرا السفر عن طريق بغداد - الناصرية البصرة ، لعدم توفر حافلات عن طريق الكوت- العمارة - البصرة ، وهو الأقرب .... في ساحة سعد وعلى قارعة الطريق ، كان صبية صغار يبيعون الصحف ، الثورة والجمهورية ، ويصيحون مروّجين لمجلة (ألف باء ) ، العدد كانون الثاني لعام 1987 ، على صورة الغلاف رسم الرقم 7 بإصبعان منفرجان  ، دلالة على علامة النصر الذي تحقق في اليوم العظيم قبل أيام .. كانت الأجواء  غير طبيعية أو  اعتيادية  أبدا  .. لاحظت العشرات من العجلات العسكرية وشاحنات الفاون العملاقة ، محملة بالدبابات ، قادمة من عدة جهات ، وهي في طريقها إلى شرق البصرة من عدة محاور ، على شكل أرتال .. ، المحور المباشر ( ساحة سعد –بصرة –عشار –تنومة ) المحور الآخر ( ساحة سعد -5 ميل – جسر خالد ابن الوليد –جباسي ) ومن هناك تتفرع إلى عدة طرق نحو الشلامجة – بحيرة الأسماك ..... ما زلت أراقب الوضع في ساحة سعد المليئة بالزحام والضجيج ، حيث ، سائقوا سيارات اللاندكروزر المدنية لا يكفون عن المنــــــــــاداة ( زريجي .. زريجي .. جباسي ) وهي مناطق معروفة في منطقة شرق البصرة ، تتمركز فيها مقرات الوحدات العسكرية العاملة في الفيلق الثالث .. تقدمت  وحشرت نفسي مع حقيبتي الثقيلة ، كآخر راكب مع ثلاثة جنود كالحي الوجوه في الخانة الخلفية لعجلة اللاندكروزر ، وانطلقت بنا متوغلة نحو شرق البصرة عبر منطقة 5ميل – جسر خالد ابن الوليد إلى أن وصلت إلى ، وحدتي العسكرية في نهاية المطاف ، ل 68  ق خ والذي يسمى لواء صقر قريش ، المرابط في منطقة النشوة .. عند باب النظام لمحني السيد أمر سرية المقر ، والذي كان في انتظاري بقلق ، وعلى أحر من الجمر ، لكونه منحي يوم مساعدة على إجازتي من دون علم السيد الآمر ... ، فصاح بي من بعيد بلهجة الأمر  ( اترك حقيبتك أرضا وراجع السيد آ مر الفوج ، ثم أردف قائلا ( راح يطلع العيد من خشمك ) ، فقلت يا ستّار ..!،  هرولت إلى غرفة السيد الآمر ، فخرج لي الانضباط ، وتقدمني إلى الداخل قائلا ( سيدي .. وصل الدكتور ) .. أديت التحية في حضرة الآمر بقوة ، ثم باغتني بصوت عالي ( عيدك مبارك ) ، إذ صادفت إجازتي الدورية مع أعياد رأس السنة ... ، وقبل أن أتفوه بكلمة صاح بي ( ربعك جاهزين ) ..؟ ! ، يقصد المفرزة الطبية التي في إمرتي .. فقلت نعم سيدي جاهزين .. رغم إني لم التقي بأحدٍ منهم بعدُ .. ثم قال ..( سنقوم بإنزال جوي على مواقع العدو بالسمتيات ، وزّع جنودك من المفروة الطبية على سرايا الفوج مع نقالات الجرحى وضماد الميدان لكل جندي في الفوج .. أريدك قريب مني في المعركة ، والآن اذهب ونفّذ ، صاح الانضباط إلى الـــــور ا ء ..دُ  ر .. أديت التحية ، وتوجهت على الفور إلى مشجب الأسلحة ، لاستلام  بندقيتي ، مع 240 أطلاقة مع 4 رمانات اثنتان منها هجومية واثنتان دفاعية ، وفي هذه الأثناء سمعت هدير المروحيات الروسية الكبيرة ، والتي تسمى السمتيات ، مقبلة لتحّط في ساحة العرضات الداخلية للفوج  ، مُحدثة ًضجيجا وعصفا من التراب والغبار المتطاير ، بينما كان رئيس عرفاء الوحدة ينفخ في البوق يدعو الجنود إلى التجمع والتعداد الفوري ، وهم ينتظمون  مع أسلحتهم ومعداتهم على ارهاط خلف أمراء السرايا من الضباط وضباط الصف ، في هذه الأثناء التقيت جنود المفرزة الطبية ، وقسّمتهم على السرايا ..  سرية المقر ، والأولى والثانية والثالثة والرابعة .. ، وأمليتُ تعليماتي ، وأبقيت جنديين لمساعدتي  ، وعلى وجه السرعة غيرّت ملابسي العسكرية الخاصة بالنزول بملابس قتالية  مرقطة ( قوات خاصة ) ،  وانطلقت  إلى الخارج ، وكان جميع مقاتلي الفوج متجمهرين في ساحة الفوج الداخلية ، مدججين بالسلاح والعتاد ، وأرزاق المعركة ، والسيد الآمر يخطب بالضباط والجنود ويملي آخر تعليماته بواسطة مكبر الصوت .. ثم ، وبإشارة منه بدأ الجنود بالهرولة إلى السمتيات تباعا ..  في داخل حوض السمتية جثونا على ركابنا ، وكان ضابط في المروحية يوجه تعليمات صارمة ، بضرورة توجيه فوهات البنادق وتنكيسها نحو الأسفل ، إذ أن محرك الطائرة مثبت في سقفها ، وبذلك خشية أن تنطلق أطلاقة من إحدى البنادق وتحصل كارثة ..
ارتفعت بنا المروحية بسرعة ، وكادت قلوبنا تسقط إلى الأرض ، وبرهة تعودنا الوضع ، ولكننا محشورون حشرا ، وعددنا اكبر من طاقة استيعاب المروحية ، لكن الأبواب كانت مغلقة ، فلم يتسنى استعلام وجهتنا بالضبط ..كان الضابط الذي يرشدنا داخل السمتية برتبة نقيب ، طيران الجيش ، لا يكف عن إملاء التعليمات والأوامر الصارمة ، ويتكلم بصوت عال ، أقتلوا كل من يصادفكم من بشر وحشر ، لا نقبل أن يأسر أحدا منكم .. الموت أفضل لكم من الأسر .. النصر أو الشهادة .. النصر أو الشهادة .. عليكم تطهير المنطقة بأي ثمن كان .. إنها أرضكم وبلادكم قد استحلت واستبيحت من قبل أعداءكم  ..
بعد وقت قصير ، أحسسنا أن المروحية بدأت بالهبوط ، ثم فجأة انفتحت الأبواب على مصراعيها  من جانبي المروحية ، ونحن ما زلنا في الجو .. وقام النقيب بإنزال شبكتين سميكتين من الحبال على جانبي المروحية ، وبدأ بدفع الجنود على النزول الواحد تلو الآخر إلى الأرض ، إذ كان يركل المترددين من الجنود بقدمه ،  فيما كانت المروحية تطير أفقيا بمحاذاة الأرض ، كانت بعض أشجار النخيل المنتشرة هنا وهناك تعيق هبوط الطائرة  واقترابها من الأرض كثيرا ، وكان بعض الجنود يقعون وسط برك من الماء هنا وهناك .. ولكن حضي كان هو الأسوأ مع جنديين آخرين ، سقطنا في مستنقع كبير من المياه الآسنة .. لحظة سقوطي غمرني الماء حتى قمة رأسي ، ولحسن الحظ وطئت قدماي قعر المستنقع الذي تعكر صفاءه بحرك الطين في القاع  ، لكن حملي من السلاح والعتاد وضماد المديدان كان ثقيلا جدا ، وأصبح أكثر ثقلا بعد ما تبللت بالكامل بالماء ، فقررت فورا النجاة بنفسي ، فتخلصت من السفري الذي على ظهري ، وجعبة الصدر المليئة بشوا جير الرصاص ، وقررت البقاء على البندقية وحدها ، لكن حتى البندقية أصبحت عبئا ثقيلا ، فتخلصت منها ، فأما حياتي ، أو البندقية والعتاد ..  بينما كنت أتخبط ، محاولا إنقاذ نفسي ، اقتربت من جثتي بعض الجثث الطافية  المنتفخة ، لشهدائنا ، وقتلى العدو.. كان الماء باردا في هذا الوقت من أيام الشتاء ، ولكني ضربت بقدمي بقوة في قعر المستنقع ، فطفا جسمي ، ثم تشبثت بواحدة من الجثث ، والتي أصبحت طوق النجاة .. لكن فمي وإذني امتلأتا بالماء ، وهكذا كررت المحاولة عدة مرات ، لكوني لا أجيد السباحة جيدا .. وبعد صراع طويل مع الماء ، وصلت إلى جرف المستنقع متشبثا بقوة ببعض الأحراش   ... عندما وطئت قدماي اليابسة ، تنفست الصعداء ، لم أجد أحدا من المقاتلين الذين هبطا معي ، ولكني أصبحت بلا سلاح ، ولا عتاد ، ولا تجهيزات ..! فيما كانت أصوات الهاونات والسلاح الخفيف ، وازير الرصاص في القرب مني .. واسمعها بوضوح .. وعندما بدأت بخلع ثيابي من اجل تنشيفها ، رأيت الجنديين يهرولان بين اشجار النخيل ، فصحت بهما بصوت عال ، فانتبها إلي ، والتحقا بي مستفسرين عن حالي ، ولما كان الجنديين ، من المستجدين واصغر سنا مني ، وكنت أعلى رتبة منهما وخبرة في الحرب ، فانصاعا إلى أوامري وتعليماتي ، من اجل الخلاص من المأزق لا غير ... على الفور أمرتهما بحفر موضع في داخل الأرض بالمعولين الصغيرين ، إذ إنهما كانا ما يزالان يحتفظان بتجهيزاتها ، وبندقيتيهما وكامل العتاد ، بسبب سقوطهما قريبا من جرف المستنقع ..
    بعد أن أكملنا نحن الثلاثة من حفر الموضع في الأرض من أجل أن نحتمي من الرصاص والشظايا المتطايرة من انفجار قنابر الهاون ، إذ كانت الأرض طينية موحلة بسبب تساقط زخات من المطر ليلة  أمس .. وبعد عدة ساعات من الانتظار والخوف والترقب ، لم يقترب منا أحد من الأعداء أو من أفراد جيشنا ، كان الجوع قد أدركنا ، ففتح الجنديين جعبتيهما ، وتقاسمنا ما فيهما من الطعام ، لكن كان الجندي المدعو (ربيع) من أهالي الموصل ، قد  بَخُل ، وأخفى بعض الطعام ، ولم يسمح لنا بتناول ما يشبع بطوننا الخاوية من الصمون والبطاطا والبيض المسلوق .. ، وفي هذا الوقت العصيب ..!!!  ، خشية أن نبقى هنا أكثر فترة ممكنة ..!
بقينا ننتظر في مكاننا ، في توجس وحذر لساعات طويلة ، كي يأتينا من يعلمنا بالأخبار، أو أي عدو نقاتله ، فيما كانت أجسادنا تتجمد من البرد القارص  حتى صباح اليوم التالي .. عندها  قررنا التحرك من مكاننا نحو الغرب ، وفي جنح الظلام الذي بدأ ينحسر رويدا رويدا ..،   وهناك لاحت طلائع جيشنا ، وبعض مدرعاتنا  قرب السواتر الترابية .. وراية علم العراق مرفوعة فوق إحدى الدبابات ، فالتحقنا نحن الثلاثة  بتلك القوة  المدرعة  ... وسلمنا أنفسنا .. ثم بعد قليل بدأت معارك الحصاد الأكبر ، والتي استمرت لأكثر من شهرين ....  


لماذا أنظر إلى الدنيا بعيني أنا …؟!

يطفر الدمع من عيني كلما أتذكر أمي ، أو تصادفي واحدة من حاجياتها  ، أو صورة قديمة لها ، من صورها المعدودات ...، عندما أعود قليلا لأيام شبابي التعيسة ! .. أيام  طيشي وعقوقي  ، لا يتحمل وزر تلك الأيام  إنسان آخر سواي .. فأنا الملام في كل شيء … أمي كانت منذ أن عرفتها لها عين  واحدة ..،  وكنت أخجل من أن تتحدث معي أمام زملائي في المدرسة ،
كانت تسبب لي الكثير من الإحراج ... كانت تعمل منظفة في مدرستي الابتدائية ، وتخدم بجد من اجل  ديمومة حياة الأسرة ، بعد أن فُقِدَ والدي في الحرب ، ولم يعد أبدا... ذات يوم بينما كنت في المدرسة المتوسطة بين زملائي الطلاب  ،  قدمت أمي لتلقي علي التحية ، ولتحضر الاجتماع السنوي مع إدارة المدرسة ... لقد كنت محرجا جدا أمامهم ... كيف استطاعت أن تتجرأ  وتفعل هذا بي ... لقد تجاهلتها ، احتقرتها ... رمقتها بنظرات حقد ... و هربت بعيداً ....
باليوم الثاني ، أحد طـــلاب فصلي ، وجــه لي كلاما ساخراً...أأيييييييي ، أمك تملك عيناً واحدة .... ! أردت أن ادفن نفسي في  وقتها ، و تمنيت أن تختفي أمي للأبدفواجهتها ذلك اليوم  وعاتبتها قائلاً :
" أن كنت فقط تريدين أن تجعلي مني مهزلة , فلم لا تموتين ؟ أو تتركي العمل في هذه المدرسة ، أو تتحولين إلى مكان آخر ... أنظري حتى واحدة من عيناي تشبه عينك كثيرا ، لماذا أنا هكذا ..؟ أنا لا أريد التشبه بك أبدا أبدا .....!!
مكثت أمي صامتة ... و لم تتفوه بكلمة واحدة ....!
لم أفكر للحظة فيما قلته ، لأني كنت سأنفجر من الغضب ،كنت  غافلاً عن مشاعرها .... أردت الخروج من ذلك المنزل ، والعيش لوحدي ..،  فلم يكن لدي شيء لأعمله هناك  معها ،لذا أخذت أدرس وأجتهد في دروسي  بجد حقيقي , حتى حصلت على  فرصة للسفر خارج البلاد لإكمال دراستي ، فنجحت ، بعد ذلك تزوجت ، و امتلكت منزلي الخاص  ، كان لي أطفال ، و كوّنت أسرتي وبيتي الخاص بي ، كنت سعيدا بحياتي الجديدة  وكنت سعيداً بأطفالي , و في قمة الارتياح.....وفي أحد الأيام ، جاءت أمي لتزورني بمنزليهي لم تراني منذ أعوام ، و لم ترى أحفادها و لو لمرة واحدة ، عندما وقفت على باب منزلي , أطفالي أخذوا يضحكون منها لقد صرخت عليها زوجتي  بسبب قدومها بدون موعد  ، ولم تقدم لها الترحيب اللائق ، كانت زوجتي تكره أمي كثيرا ، وتتكبر عليها ، ولم أحاول ثنيها عن كرهها لأمي ، مقابل حبها وتعلقها الكبير بأسرتها ، كيف تجرأتي و قدمتي لمنزلي و أرعبتي أطفالي
أخرجي من هنا حالاً.....!
أجابت بصوت رقيق ، عذراً ، آسفة جداً ، لربما تبعت العنوان الخطأ ..... منذ   ذلك الحين ... اختفت أمي....
وفي أحد الأيام ، وصلتني رسالة من المدرسة بخصوص حضوري مجلس الآباء والمعلمين ، في ذلك الحي القديم أو القرية ، كعضو شرف ، لذا كذبت على زوجتي و أخبرتها إني خارج  في عمل مهم .. وسأتأخر قليلا ...
بعد الانتهاء من الاجتماع  ، توجهت لمنزلنا العتيق حيث نشأت كان فضولي يرشدني دائما لذلك المنزل القديم .. احد جيراني أخبرني ، لقد توفيت والدتك !! لم تذرف عيناي بقطرة دمع واحدة ...! ، وحينها كنت أكمل  الدراسة  العليا مرة أخرى في الخارج ،..ولكنه سلمني أمانة من عندها ،كان لديها رسالة أرادت مني أن اعرفها قبل وفاتها ....!
أبني العزيز ، لم ابرح أفكر فيك طوال الوقت ، أنا آسفة لقدومي لبيتك ، وإرعابي أطفالك ذات يوم  كان سعيدا بالنسبة لي لقد كنت مسرورة عندما عرفت انك قادم بيوم اجتماع مجلس الآباء والمعلمين  لكني ،  لم أكن قادرة على النهوض من السرير لرؤيتك أنا آسفة جدا جدا يا ولدي العزيز ، فقد كنت مصدر إحراج لك في فترة صباك وسأخبرك بالحقيقة كاملة  ...
عندما كنت طفلاً صغيراً تعرضت لحادث و فقدت إحدىعينيك..!
لكني كأم , لم أستطع الوقوف و أشاهدك تنمو بعين واحدة فقط ، لذا فقد قررت أن  أعطيتك عيني...!!
كنت فخورة جداً بابني الذي كان يريني العالم , بعيني تلك مع حبي لك ... أمك...، وفي الحال ،
سقطت جاثيا على ركبتي ،  وقد انهمرت عيناي دموعا ونحيبا نادما على ما فعلته في حق أمي التي جعل الله الجنة تحت أقدامها أعوذ بالله من عقوق الوالدين واعلموا أن ما نفعله فيهما قد يعمله معك أبنائك فيك .... إن براً  فبر...،  وان عقوقا  فعقوق والله أعلم و احكم سبحانه ،،، (( فكما تدين تدان)) .
رضا الوالدين يا أحباب هو غاية سامية دعا الله عز وجل عندما قال (( وبالوالدين إحسانا )) فلنعمل  ما في وسعنا من أجلهما  ...









رجل في ذاكرتي

لا أعرف ما الذي جاء بطيفه إلى ذاكرتي فجأة ... ، ملامحه السمراء الداكنة ، وعيناه الغائرتان ، طوله الفارع ، وجسده النحيل الهزيل .. ،  نبرات صوته الحزينة لا تزال ترن في أذنّي .... فذكراه تعود بي إلى ما يقارب ثماني سنوات خلت ، عندما كنا نعمل سوية في ميناء خور الزبير في محافظة البصرة ....
انه حسن حمود ... ذلك الشاب القروي البسيط القادم من الريف ...  عندما أتذكره ، أتذكر معه ، الآخرين .. أبا أياد .. غانم محراث .. أياد عريبي وسعد شكري طماع ! (هكذا كانوا يلقبونه ، لأنه كان يطلب  الحاجيات والطعام من الآخرين) ...
جميعنا شلة من العمال الشباب ، نعمل في شركة أجنبية مساهمة في إنشاء معمل الحديد والصلب الكبير ....
عند الظهيرة ، وأثناء فترة استراحة تناول الطعام ، كنا نلتف حول أبا أياد ، وهو أكبرنا سنا ، لنستمع لأحاديثه بخشوع ، وهو يقص علينا ما خبرته الأيام من أحداث وعبر .
لكن ما الذي ذكرني ب ( حسن حمود ) دون سواه من كل هؤلاء ؟!
فهو حاضر في ذاكرتي بقوة ، رغم كل هذه السنين الملتهبة المليئة بالأحداث الجسام والاضطرابات وسنوات الحرب العراقية الإيرانية  وهي تدخل عامها السابع الآن .  وليس بيني وبين حسن حمود علاقة وثيقة أو صداقة حميمة ، لسبب جليّ ومعلوم .. هو الاختلاف في المستوى العلمي والثقافي والميول والاهتمامات .. ،  فالذي يربطنا ، فقط علاقة عمل في الشركة الأسبانية .. ، انتهت في حينها ..، إلا إن حدسي لن يخيب ، فما دمت أتذكره ، فلا بد من إني سوف ألتقيه ، وربما قريبا ...
مرت أيام ٌ معدودات ، وحينما كنت في إجازة من عملي في كركوك ،  لزيارة أهلي في البصرة ، قررت مراجعة المستشفى الحكومي العام ، من اجل محاولة نقلي من كركوك ، وزيارة بعض زملائي الذين باشروا العمل هناك بعد تخرجنا ، وتفقد طبيعة  عملهم ، وأنا أهيم بالمغادرة ، وأثناء مروري بين حدائق المستشفى وبالقرب ردهة الأمراض النفسية والعصبية ، فاجأني صوت صارخ ينادي باسمي بتكرار وإلحاح...  جميل ..جميل..! تعال يا جميل ...!! ، تهيأ لي في بادئ الأمر انه أحد زملائي الذين تخرجوا معي ضمن دورتي ..، ولكني حين اقتربت رويدا من مصدر الصوت الخارج من نافذة الحجرة المعتمة من الداخل ، والمحكمة الأبواب والشبابيك ، فإذا بي أرى حسن حمود ، مودِّعا في داخل الحجرة ..!  نعم انه ذلك الشخص الذي يخطر إلى بالي كل يوم  .. ، كان قلقا هائجا يتحرك بانفعال  واضطراب ، جيئة وذهابا في داخل الغرفة كثور ٍهائج .. ! ثم مَدّ لي  يده ،  ليصافحني وهو في داخل الغرفة ، خلف القضبان الحديدية والأسلاك التي تغلف الشباك ..! وقبل أن أتفوه بكلمة ، بادرني  بكلمات سريعة أشبه بالهذيان متسائلا ،  ها ... ها.. أين أنت ..؟ في حظيرة مشاة ؟ أنت في فصيل هاونات ..؟! لا..لا.. أنت آمر حظيرة ..نعمممم  ..نعمممم .. أنت .. آمر حظيرَتي .. ثم أردف قائلا نعم ..  نعم سيدي .. المسافة ... 200 متر ، فصيل هاونـــــــــات ، أذا كنت جاهز للرمي ... ارمي  .. نعم سيدي ... ثم قام بأداء التحية العسكرية ويضرب قدمه بقوة بالأرض ويخطو بتتابع داخل الحجرة ويؤدي الحركات العسكرية وهو يصيح بأعلى صوته ... للفاو ..للفاو نعم سيدي للفاو ... دمرناهم .. دمرناهم ...  لكني أدركت حينئذ انه مخبول من جراء زجه في معركة الفاو الدائرة الآن بعد احتلالها من قبل القوات الإيرانية قبل أسابيع ... فتراجعت مندهشا نحو الوراء فيما ظل هو يتوسل ويصيح بأعلى صوته مناديا  ..جميل ..جميل أبقى معي .. لا تتركني سأموت هنا لوحدي ... تعال .. تعـــــــــال يا جميل .. ثم بدأ يكيل لي سيل من الشتائم والمسبات ، ! لكني تركته منصرفا إلى شأني ..، وثمة حزن  وذهول  يكابداني والعبرات تخنقني حزنا وأسفا لما آل إليه قدر حسن حمود ، وأنا مصدوم من ذلك اللقاء المفاجئ  ....

                                            البصرة
معركة الحواسم ...   \    2003

إنها أيام معركة الحواسم ... هكذا سماها الرئيس العراقي الراحل  صدام حسين .. كان هناك إصرار من قبل أمريكا وحلفاءها أن تشن هذه الحرب على العراق .. وهناك إصرار من قبل قيادتنا على العناد ، والاعتقاد من إننا سننتصر .. ! لكن أعدائنا ، وهم العالم كله ، واثقون من النصر علينا ... ونحن لا نكف عن المماطلة ، رغم علمنا  يقينا ، إن العواقب وخيمة ....
العراق كله يشتعل ، يتدمر .. من شماله حتى جنوبه .. الكل في حالة استنفار قصوى ، الجيش والشعب والشرطة الحزب الحاكم .. الأمن والدوائر الحكومية والاستخبارية .. والمخابراتية .. والكل يعمل تحت سلطة الدولة وهيمنتها ولا أحد يحيد ..  طائرات حربية تحلق في سماء العراق ، وفوق رؤوسنا ليل نهار .. صواريخ عابرة للقارات تدك  كل شيء في البلد ، تحطم وتقتل المئات ، بل الألوف من أبناء شعبنا  .. في المقابل هناك رد ضعيف على كل ذلك من داخل المدن ومن بين المدن الآهلة بالسكان ، قواعد صواريخ ارض جو ، ومدفعية مقاومة للطائرات زرعت في المدارس والمستشفيات وبين دور المواطنين .. والكنائس والجوامع للتمويه ، والاحتماء بالناس الأبرياء  العزل ، لكن الطائرات المغيرة تضرب وتدمر كل من يطلق عليها .. الوحدات العسكرية التي كانت رابضة على الحدود ، تم سحبها إلى ضواحي المدن وعلى أطرافها ، تم سحب القادة العسكريين والرتب الكبيرة من الضباط إلى الدوائر الحكومية ومقرات الوحدات الإدارية والغير قتالية داخل المدن للحفاظ على أرواحهم من الموت أو الأسر ، على يد القوات الزاحفة من الشمال والجنوب ..
في مدينة كركوك ، تم سحب مجموعة من الضباط الكبار ، وتقرر أن يكون دوامهم في واحدة من بنايات الوحدات العسكرية الإدارية ، أو الخدمية ،   كونه ليس موقعا قتاليا وليس معروفا من قبل قوات التحالف القادمة من وراء البحار والمحيطات ... وأليكم أوامر القسم الثاني ليوم 18\3\2003 ..
1- العميد فاروق عبد اللطيف على  
2- العميد عبد الإله سعيد قاسم  
3- العميد منذر حسين نجم الدين
4- العميد  .... العميد ... العميد ، ثم العقيد .. العقيد .. وأخيرا المقدم .
مجموعة من الضباط والرتب الكبيرة تم تنسيبهم  مؤقتا من وحدات عسكرية متفرقة ، غير قتالية ، معظمهم من محافظات بعيدة  ،  للحفاظ على سلامتهم ، لأن وحداتهم الحقيقية معرضة للقصف ، ولحين انتهاء الحرب ..، فيعودوا إلى ممارسة مهامهم في وحداتهم ، لكن على هؤلاء الضباط البقاء والمبيت داخل هذه البناية ، بلا كهرباء أو اتصال بوسائل الإعلام ،  وعدم مغادرة المكان  لأي سبب كان ، حتى لا  يكتشف وجودهم ،  وبأوامر صادرة من قيادات البلد العليا ، ومن يخالف هذه الأوامر والتوجيهات يعرض  نفسه لأقصى العقوبات الصارمة في زمن الحرب .. انتهى الأمر، ونزلت أوامر القسم الثاني ، وباتت معلومة  ومعروفة للجميع ، ووضِعت نسخة منها في لوحة الإعلانات ،  العميد منذر حسين نجم الدين ، من أهالي المدينة ، كان قد انتظر لفترة طويلة ، دون أن ينزل إلى البلدة بأجازة ، بسبب توتر الأوضاع قبل اندلاع هذه الحرب ، فهو لم يلتقي زوجته وأولاده ، وها هي أيام الحرب تتوالى يوما بعد يوم ، وثمة شكوك وقلق يسامرانه من جدوى هذه الحرب الغير متكافئة ... ،  ليلة أمس  لم يذق طعم النوم حتى الصباح ، يفكر في مصيره ، ويشتهي ليلة واحدة أن ينام في حضن زوجته الدافئة الناعسة ، وفي ذهنه يعمل شريط الذكريات بكل ما فيه من لقطات جميلة خلال سنوات الزواج بحلوها ومرها ، فهو يتمناها الآن بتعطش شديد ولهفة جامحة ، لأن ينام ليلته في أحضانها ... ، آآآآآآه ، لو كنت الآن في البيت ، لكنت  ملتصقا بجسمها ... لا أكف عن تقبيل ثغرها وعنقها وزنديها البيضاويين وكفيها الحارين ، وقدميها وساقيها الرخاميتين ، وبطنها الناعسة ... لا...  لن  أغو، ولن أسلمّ نفسي للرقاد ، واحرم نفسي من تأمل هذه المشاهد الرائعة التي تدور في مخيلتي .. ، لا .. سأمارس الجنس في  خيالي ، ولن أحرم نفسي من الحلم الجميل  الذي يراودني .. وهذا هو قدري المشئوم ، قدري يبعدني عن أعز ما امتلك من سلوى في حياتي ، لا بل يضعني على المحك مع الموت ... ، ولكني لن أهرب ، ولن أغادر موقعي الدفاعي ، فأنا لستُ جنديا مستجدا ، كي أدير وجهي ، واترك  واجبي ، فأنا برتبه جنرال في الجيش ، والأنظار كلها متجهة نحوي ، وربما هناك من يراقبني ويراقب تحركاتي ، ويريد الوشاية بي ، فمن يعلم ، ربما أن أحد هؤلاء الجنود من هو في الاستخبارات العسكرية ، أو المخابرات ، وربما بتقرير صغير ، يتسبب في إنهاء حياتي بجّرة قلم ... علي الالتزام بالأوامر وسياقات العمل ، وان لا تجرني نزواتي  وشهوات جسدي إلى الزلل والمزالق والمهاوي ... كلا .. كلا لن أفعل ذلك علي كبح جماح النفس والسيطرة على شهوة الجسد العارمة وغريزتي حتى انتهاء هذه المهمة ، ثم أعود إلى زوجتي الجميلة بأسرع وقت ، وأفعل معها ما أشاء ، وأتمتع بمفاتن جسمها الجميل ..  
كانت الساعة العاشرة والنصف ليلا ، عندما ازدادت حدة الهواجس ، وهو غارق في لجة ظلام الحجرة المحصنة بأكياس التراب ، ولا يشغل فكره غير التفكير بالعملية الجنسية ، وهو الذي ظل لأكثر من ثلاثون يوما  ، دون أن يلتقي زوجته ، لا بل لم يشاهد أمرآة  وهو قريب جدا من المدينة , ومن بيته , ولكنها الأوامر العسكرية الصارمة .... وفي هذه الأثناء سمع طرقات خفيفة على باب ملجأه ، فصاح .. من .. من الطارق .. جاءه الصوت من الخارج .. أنا أنا سيدي .. أنا حرس المقر ..
ماذا تريد ..؟.
سيدي نائب ضابط مروان أبو الإعاشة يريد التحدث إليك ...
أنتظر لحظة ..

هم بارتداء ملابسه العسكرية للتظاهر بمظهر القوة والبأس والحزم .. ثم فتح له الباب .. بعد أن أومأ للحرس بالانصراف ..
أدى القادم توا التحية العسكرية بهمة ونشاط ..
تفضل .. ماذا تريد ..
سيدي .. سيدي .. التمس منك أن تسمح لي بالنزول إلى البيت .. لأن القصف المعادي طال منطقة سكني وجرحت زوجتي وأبني .. انظر هذا ولدي مؤيد حضر إلى هنا  في هذه الساعة وأخبرني بما حصل لهم .. وهم الآن في حاجة ماسة لوجودي معهم  .. لذا أطلب من سيادتك أن تسمح لي بالذهاب هذه الليلة فقط للاطمئنان على صحتهما .. واقسم لك بأنني سوف أعود في الصباح الباكر .. فكر السيد العميد في الأمر مليا .. ،  فهو لا يستطيع تحمل مسؤولية نزول جندي .. فكيف الحال مع نائب ضابط الإعاشة ، وفي هذا الوقت العصيب ، فلربما حصل ما لم يحمد عقباه ، فمن يشفع له ، ؟ كذلك لا يستطيع أن يظلم هذا الإنسان ، ومنعه من تفقد عائلته المنكوبة ، من الناحية الإنسانية .. ثم أردف قائلا .. ولكن أين يقع بيتكم ..؟ في أية منطقة ؟
أجاب النائب ضابط مروان .. في منطقة 1 آذار سيدي .. لكن هذه المنطقة قريبة جدا من سكن السيد العميد .. لا بل منزله يقع في طريقه .. وقبل أن يأذن له بالنزول ، طرأت في ذهنه فكرة جهنمية .. إذ سأل .. وكيف تذهب إلى بيتك في هذا الليل المضطرب ..؟
أجاب  النائب ضابط .. لدي سيارة سيدي .. واستطيع الوصول خلال ربع ساعة ..
لما سمع السيد العميد هذا الكلام ،  أردف قائلا ،  بيتي على طريقك ، ممكن أن توصلني ، وتعود لتقلني في  طريقك عند الصباح الباكر ..؟
تحمس النائب ضابط للفكرة ،  وأجاب على الفور .. بالتأكيد سيدي ..  بالتأكيد .. أوصلك أينما تريد  ،  وآتي وأعود بك إلى هنا عند الصباح ..  أو في أي وقت تشاء  .. فقط ساعدني للنزول للاطمئنان على عائلتي ...
إذن انتظر لحظة حتى ارتدي كامل  قيافتي العسكرية .. ثم  دخل الغرفة المحصنة وارتدى بزته العسكرية بلمح البصر وخرج , وأغلق الباب دونه ،  ثم سأل أين السيارة ،  أجاب النائب ضابط على الفور .. إنها هناك في المرآب  سيدي تفضل من هنا .. من هنا سيدي ، وهو يهرول ببطي ،  فتح النائب ضابط الباب للسيد العميد ، وهو يردد تفضل .. تفضل سيدي .. لا بأس إنها برازيلي متواضعة .. ، ولكنها تفي بالغرض ، هذا ولدي مؤيد  يجلس في انتظاري ، ثم استقل الثلاثة السيارة وانطلقوا تحت جنح الظلام .. ودوي الانفجارات في السماء ، ولكنه حذر النائب ضابط من مغبة التحدث لأي من مقاتلي الوحدة العسكرية أو الضباط .. وما هي إلا عشرة دقائق وكان السيد العميد في بيته ، وكانت الساعة قد قاربت الثانية عشرة ليلا ، وبالطبع كانت الكهرباء مقطوعة والدنيا ظلام دامس ، كذلك لديه نسخة من مفتاح البيت ،  ففتح الباب بهدوء ،  و تفقد غرفة نوم الأطفال ،  كان الجميع نيام , ثم فتح باب غرفة نومه ،  كانت المرأة الجميلة قد أحست بوجوده ،  لكنها تظاهرت بالنوم حتى تفاجئه عندما يقترب منها ، ثم ولج إليها ببطء ، ورفع الغطاء عن ساقيها ، الرخاميتين وبدأ يمسدهما بهدوء وحنو ، ويخلع عنهما جوربيها الشفافيتين ، تماما  كما يفعل كلما يباغتها ليلا . كانت ساقيها دافئتين ناعستين ،  ثم رفع البطانية بالكامل كي يتأمل جسدها البض ، لكنها فاجأته ، ونطت من سريرها كالقطة المفترسة واحتضنته ، ولثمت فمه بقبلة طويلة حارة  ، وأسقطته على ظهره فوق السرير  وجثمت على صدره بكامل جسدها الأسفنجي الناعس ، وترقرقت عيناها بالدموع ، وهي تمص شفتيه بقوة دون أن تتفوه بكلمة ، ثم بدأت تفك أزرار بدلته العسكرية وتخلع عنه ثيابه بالكامل ، وما زالت شفتيها ملتصقة بشفتيه ، ثم راح  يمرر شفتيه على عنقها ، ويدغدغها بشاربه الكث ، وهي ترتعش ،  ويشم رائحتها العطرة ، وكأنه يراها لأول مرة ، عندما جردها عن ثيابها بالكامل ،  ورمى بها على الأرض ، حتى أصبحا عاريين  تماما ،  والتصق جسديهما ، وتمرغا في الفراش الوثير ، وبدءا  يفعلان ما يحلو لهما  ، تماما ، كما كانا في اول زواجهما ، ليعوضا عن حرمانهما  لثلاثين يوما التي من الجفاء التي قضياها بعيدا عن بعضهما  ..
عند الساعة الثالثة فجرا ، كانت طائرات التحالف قد أغارت على تلك الوحدة العسكرية ، ودكتها بصاروخي جو أرض كبيرين  ، وأحالتها إلى ركام ورماد ،  ومات ، واصيب  كل من كان في المعسكر من الضباط والجنود ، ودفن البعض منهم  تحت الركام  ،  ولم يسلم إلا بعض الجنود الذين كانوا في المواضع الدفاعية بالقرب من المعسكر ، حيث أصيبوا ببعض الجروح ، لكن السيد العميد منذر نجا من الموت المحتم ، فهو في الفراش يقضي أجمل ليلة في  حياته  في احضان  زوجته المدللة الجميلة الناعسة ،  حتى انبلاج الفجر ، دون أن يعلم ماذا حصل لزملائه من الضباط والجنود المرابطين في الموضع القتالي ، عند الساعة السابعة صباحا ،  كان السيد العميد متأنقا بكامل قيافته العسكرية ،  في انتظار نائب ضابط مروان ليعود به إلى المعسكر ،  بشئ من القلق والاضطراب ، كي لا يكتشف أمر نزوله إلى البيت ،  وما هي إلا لحظات حتى وصل السائق ،  ففتح الباب ، وولج السيارة بسرعة ، وانطلقت إلى المعسكر  ، لكن الثكنة العسكرية  كانت قد تحولت إلى ركام ، ولا أحد من يسأل أو يحاسب ، والدولة بأكملها ، قاب قوسين أو أدنى من السقوط ،  وكل من مات ،  مات لنفسه ،  ثم عاد أدراجه إلى البيت ليكل ممارسة  الجنس ، ويعوض كل حرمان الايام والسنين  ، بعد اقل من يومين تغير البلد من حال الى حال ،في 9\4\2003 ، حتى جاء الحاكم بول بريمر ، وحل الجيش السابق ، وكل ما يتعلق بالدولة ،  وتسرح من الجيش ولم يرتدي البدلة العسكرية إلى الأبد ...    




الفهرس
4 هدوء العاصفة
10 الواجب الطارئ
12 قلب من حجر
19 حلـــم بعيـــد المنــال
22 الترمز
29 الفسُحـة
47 الهاجس
54 معركة الحصاد الأكبر  
60 مـــــرقــة هـــــ
ناظم هرمز كورو
ناظم هرمز كورو

عدد الرسائل : 178
الموقع : لبنان - بيروت u k m k
تاريخ التسجيل : 03/06/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى