جميل فرنسيس زورا قصص الجزء الاول من ( هدوء العاصفة )
صفحة 1 من اصل 1
جميل فرنسيس زورا قصص الجزء الاول من ( هدوء العاصفة )
مقدمة ..
أن تكون فردا في فصيل الأسود، خيرا لك من أن تكون قائدا للنعاج ... الحياة ... صفحةٌ بيضاء .. نحـــن البشر نمــلأها بالأحــداث والانجـازات والذكريات ، سعيدة كانت ، أم مريرة ... ونرسم فيها بصمتنا ، أفرادا وشعوب .. هناك أحداث كثيرة ..، منها جسيمة خارجة عن طاقات البشر ، كالزلازل والكوارث البيئية والطبيعية والكونية .. وهناك أحداث صغيرة مـن صنع البشر .. حروبا كانت ، هنا ، أو هناك .. أو انجازات فردية أو جماعية ... ما يهمنا نحن صغار البشر ... أما أن نكون .. أو لا نكون .. نسعى دائما إلى تحقيق ذواتنا ، بأي شكل من الأشكال .. يقول فكتور هيجو ( عش دائما في وسط الحدث ، والق بنفسك في وسط الحرائق ) .. هناك أناس يجعلون الأشياء تحدث ، وأناس يرقبون الأشياء وهي تحدث ، وأناس لا يعرفون إن شيئا قد حدث ، ومن واجب المثقف أن يسلط الضوء على بقع الظلام المعتمة .. على أوكار خفافيش الليل المختبئة هنا وهناك ، وان يصوغ الخبر، أو الحدث بطريقة أدبية لائقة ... ثمة أحداث مرت في حياتي ، وحياة بعض المقربين لي ، ومنها عشتها مكرها لأنها فُرِضَت علىّ فرضا ً، لما كانت هناك حربا لا ناقة لي فيها ولا جمل ، مشتعلة بي بلدي ، وبلد جارة ، فكنت كغيري من الناس حطبا في اتونها ، ولكني كنت دائما أدّون ملاحظاتي واكتب مذكراتي لحظة بلحظة .. وبعد سنوات ، ارتأيت أن أحوّل هذه المذكرات إلى قصص قصيرة ، بعد إن أجريت عليها بعض التعديلات من ناحية التعبير واللغة .. ولكنها أحداث حقيقية من الواقع المأساوي المرير .. أتمنى أن تنال استحسان القراء ....
تحياتي ...
الإهداء ..
إلى ذلك الزاهد في الدنيا
الذي رحل عني .......،
قبل أن يرى باكورة أعمالي ..
لكنه ما زال يراقبني ...
وأنا أخطو ببطء........
فيرتاح ... ويرضى ...
وينام قرير العين ...
جميل فرنسيس
2012
ذكريات في زمن ألحرب
هدوء العاصفة ......
السماء داكنة مكفهرة ... الظلام ينتشر سريعا على هذه السواتر الترابية القذرة ، والمعفرة برائحة البارود والشعواط والاحتراق ... والليل تقدم نحونا من جهة الشرق ، وبدا الظلام يبتلع كل شيء.....
ولجتُ إلى داخل ملجأي المحفور في باطن الأرض ، وأشعلت قنينة التمر والكيروسين ، كي لا يغمرني الظلام ، فارتفع خيط من الدخان الاسود ، وتوهج ضوء خافت ، فضح محتويات الملجأ المؤثث بالرصاص ، وشواجير بندقيتي التي أسميتها (صبيحة) ! ، كونها تلازمني ليل نهار وتعايشني في السراء والضراء .. وكانت القصعة مركونة قرب فتحة الدخول إلى الملجأ ، وَظهَرَ يطغي ( فراشي ) الذي ما زال مرزوما بإحكام ، بحبل سميك ... ، واحمد الله لأني وجدت صفيحة من الجينكو داخل هذا الموضع ، عليها بطانية قميئة ممزقة .... فمن يدري ، ربما كان هذا الملجأ الراقي لآمر الحظيرة أو رئيس عرفاء السرية ، بسبب وجود تلك الصفيحة المثبتة علــى أ كياس الرمل بعناية... فتحت يطغي فوق الصفيحة ، وقبل أن استلقي عليه ، لاحظت شيئاً يدب بسرعة ليتوارى عن ناظري ، فأدركت على الفور من إنها عقربه !... سحبت طرف البطانية بقوة ، فسقطت العقربة على الأرض فسحقتها بكعب بسطالي الثقيل فتحولت إلى أشلاء ...
فتحت جعبة الأرزاق وهي عبارة عن حقيبة من قماش مخملي ، وجدت بداخلها ثلاثة صمونات (صمون الجيش ) نصف يابسات مع أربعـــــــــة ( رؤوس حربية) من البصل الأبيض مع حبة طماطة (مسحوقة) ! كانت زمزميتي مملوءة بماء شبه ساخن .. ، ولا أمل بالقصعة وقت العشاء في هذه الليلة المضطربة ، وربما حتى نهار الغد ، كوننا استلما هذا القاطع اليوم ، وقبل سويعات قلائل ... ولأنني دائما أفضل موضعا انفراديا على الاختلاط بهؤلاء الجنود الثرثارين في فوج المغاوير، الذين أعتبرهم أسوأ شريحة في الجيش العراقي ... ، وكنت حال وصولنا لهذه الأرض قد قسّمت أفراد المفرزة الطبية الذين هم بإمرتي على سرايا الفوج الأربعة ، اضافة لسرية المقر ... إذ كان العدو الإيراني يعلم باستلامنا نحن المغاوير هذا القاطع .. وكان يتوجس من وجودنا وحذرا جدا منا ، كوننا لقنّاه دروسا بليغة في معارك سابقه ، ولكن بين آونة وأخرى يطلق علينا بعض قذائف مدفع الهاون ( 106) ملم ، لجسّ النبض ومعرفة رد فعلنا وعددنا من قوة النار التي نرد بها ، لكونه أي العدو الإيراني ، لا يبعد عنا غير مسافة 500الى600 متر ، ويفصلنا عنه بعض السواتر الترابية ، وارض مفتوحة ، (حقل ألغام) متنوع ..، مضادة للأشخاص والدروع والعجلات ، ومشاعل العثرة ... عند التاسعة مساء أصبح الظلام حالكا كثيفا ، ولأن العدو يختار الليالي الداكنة المعتمة للهجوم دائما ... ، وفي أثناء ذلك الصمت والسكون ، سمعنا فجأة صوتا مدويا ملأ الأرجاء ... !، وبنبرة متناغمة واحدة مدوّية .. كان هناك آلاف من جنود العدو ، محتشدون ، وهم يصيحون (الله أكبر .. خميني رهبر) (الله أكبر.. خميني رهبر) ، فعّم فيضٌ من الخوف والذعر بين صفوف جنودنا الذين بدؤوا يتراكضون وبتهيئة البنادق ومواضع الرمي على السواتر المحصنة بأكياس الرمل ، وكنت اسمع بعض من تعليقات الجنود الخائفين ، عندما يمرقون قرب موضعي ، إذ كان تعداد فوجنا لا يتجاوز أل ( 350) مقاتل مقابل هؤلاء الآلاف من جنود الأعداء ! .. في هذه الأثناء جاءني مراسل آمر الفوج ، وهو ينادي بأسمى من خارج موضعي ، بأن السيد الآمر يطلبني على الفور..! ، تقدمني المراسل ، وأنا أسير خلفه بتوجس ، و لما حضرت أمام السيد الآمر ، كان بصحبته في الملجأ السيد المساعد مع آمر سرية المقر ، وكان مرتبكا خائفا من الهجوم المرتقب .. ثم بدأ يملي علي بعض الأوامر ، بخصوص الحيطة والحذر واليقظة والاستعداد الكامل ، وأنا اردد نعم سيدي ..حاضر سيدي ..صار سيدي ، لكنه طلب مني حبوب الإسهال بصفتي مسئول المفرزة الطبية في الفوج ، لأنه منقولا حديثا في وحدتنا ولم يشهد معارك كبيرة في السابق ، وليس لديه خبرة في قيادة المعارك ، فقد أصيب بالإسهال ، وتلك حالة معروفة ، ومشخصة ، في الجبهة ..
ذهبت إلى الموضع ، وفتشت بين عدة الإسعافات على حبوب الإسهال .. ، ويا للمصيبة.... لم أجدها..! ، لأنني كنت قد نسيتها في الموقع الخلفي ... !!
ماذا عساي أن أفعل يا ترى أمام جبروت وغضب السيد الآمر ؟ ولكني وجدت بعض من حبوب الفاليوم رقم 2 وهي شبيهة بحبوب الإسهال فوضعتها في كيس صغير وذهبت بها إلى السيد الآمر ، وكان مازال يزعق ويزبد كالطبل الفارغ بحضور أمراء السرايا .. ورئيس عرفاء الوحدة... ، تناول الكيس ، وفتحه ، وابتلع أربع حبات منه دفعة واحدة مع قدح ماء ، وأومأ لي بطارف سبابته بالانصراف... ، أديت التحية ، وعدت مرتبكا إلى موضعي .. تتقاذفني الهواجس والأفكار ، فأنا لست خائفا من الهجوم المرتقب بقدر ما كنت خائف من افتضاح أمر حبوب الفاليوم التي قدمتها بدلا من حبوب الإسهال... ! وبعد دقائق قليلة سمعنا دويّ انفجارات عنيفة في ارض العدو .. ، حيث دكت قوتنا الصاروخية تلك الحشود المتجمعة بصواريخ ارض ارض وحولتهم إلى شتات وهباء في أرضهم ، قبل الشروع بالهجوم علينا ، فتكبدوا خسائر كبيرة بالارواح والمعدات .. ، في صباح اليوم التالي وفي الساعة العاشرة صباحا ، كانت جًًُهام الشؤم قد انقشعت ، ولاحت الشمس من وراء نتف الغيوم الهاربة المندحرة والسماء زرقاء صافية ، فسمعت صوت مراسل الآمر مناديا يدعوني للمثول أمام سيادته ، وبالسرعة الممكنة !!، فراودتني الهواجس والقلق والخشية مرة أخرى .. ، وقلت في نفسي (جاءك المـــــوت يا تارك الصـــــلاة ) ، ولكني عندما دخلت ملجأ السيد آمر الفوج ، وجدته باشا ضاحكا مرتاحا ، وهو يتكلم مع آمر الفوج الثاني بجهاز الهاتف ، ولما انتهى من كلامه ، نظر إلي ، وناولني ظرف مختوم ، وقال (اذهب مع عجلة الأرزاق إلى وحدة الميدان وأحضر لنا ضماد الميدان ووزع لكل مقاتل قطعة ).. ثم أردف بعد صمت قليل .. و قال (أشكرك على الحبوب. . لقد أ فادتني كثيرا وأنقذتني من الإسهال)...! تناولت منه الظرف وأديت التحية العسكرية ، واستدرت إلى الوراء ، خرجت من عند الآمر.. وأنا مدرك ومتيقن جدا من انه كان فعلا بحاجة إلى حبوب الفاليوم وليس حبوب الإسهال....
شرق البصرة 1987
الواجب الطارئ
كانا قد اتفقا من حيث المبدأ .. وبقي عليهما التنفيذ .. عندما جثا المساء على بيوت المدينة ، وقد خلا الجو لهما ، وصَفا ، ليمارسا الحُب .. ، كانت قد خرجت لتوّها من الحمام .. وكحّلت عينيها ، وعطرّت جسدها البض بأطيب عطورها وصبغت شفتيها بالأحمر القاني ، ومسحت وجنتيها بنفحة من الوردي المعطر ، ثم اتشحت بثوبها الأحمر، الحريري الشفاف كالزجاج ، حتى أصبحت آية من الحسن والجمال .. لا بل حورية من حوريات البحر .. وكان هو يومئذ ، قد عاد للمنزل مبكرا ، واغتسل جيدا .. ، وبعد تناول وجبة عشاء ٍ دسم ، واحتساء قدح ٍمن الشاي .. ، ثم بعد استراحة قصيرة ، باغتته بعطرها الفواح الذي ملأ الغرفة ، وبجمالها الأخاذ .. ، نهض من كرسيه الوثير ، وجحظت عيناه ، وبدأ يتلمس جسدها ، منبهرا بروعتها وجمالها الفتان ، وكأنه يراها لأول مرة ..، كيف لا ، وهو الذي أمضى الليالي الطوال من سني عمره في الواجبات والخفارات الليلية بعيدا عن زوجته الشابة الجميلة ، خدمة ًللوطن ...! وحين ضمها إلى صدره ، طبع بعض القبلات على وجنتيها وعنقها الرخامي ، منتشيا ، وهو يستنشق رحيقها العطر... ، ولما أراد أن يلثم شفتيها المكتنزتين بقبلة الحياة ...، رنّ جرس الهاتف فجأة !! تحرّك مبتعدا عنها ، وهو يضرب كفا بكف ، وبقدميه ارض الغرفة بقوة ، ورفع السماعة منزعجا .. متوعدا المتصل ، وردّ بصوتٍ عال.ٍ. الو .. الو من المتصل .. من أنت ؟ .. ثم رقت نبرات صوته . . ، حين عرف إن المتصل هو مسئول بارز .. أهلا سيدي .. أهلا أستاذ .. أهلا تفضل أستــــاذ ؟!.... ثم تكلم الأستاذ الكبير ...( اسمع هذا التبليغ .... عليك الحضور فورا إلى المقر ، وان تأخذ معك عشرة من المقاتلين الجيّدين مع كامل أسلحتهم وعتادهم ، وتتوجّه بسرعة إلى النقطة ( ب ) في المواضع الأمامية خارج المدينة ، وان تمارس الخطة الأمنية الليلية بدقة ، لأن المسؤول الأعلى في طريقه إلى هناك ليرى الخنادق والاستحضارات المعدّة لصد الإنزال الجوي الأمريكي ..مفهوم..؟) ... مفهوم .. أستاذ ...
انتهى البلاغ ... خرج المقاتل المتفاني مع قوته القتالية ، ونفذوا ما مطلوب منهم ، وهم يرتعدون من البرد داخل المواضع الترابية الرطبة البعيدة في العراء .. وهم يحتضنون البنادق المتجمدة تحت جنح الظلام .. لكن المسؤول الكبير لم... ولن يأت أبدا ...!
وظلت هي تنتظر عودته بكامل حلتّها حتى الصباح ...
قلب من حجر
دعوني لمعالجته إلى بيته .. كان وحيدا ممددا على أريكة خشبية قديمة ، تتوسط الغرفة القذرة ..، وهو متدثرا بعدد من الأغطية الصوفية القميئة المتسخة .. كان يصيح ويئن من آلام حادة مبّرحة ، وألم في صدره نتيجة إصابته بالذبحة الصدرية ... لا أحد يعيش معه في هذه الغرفة المهملة غير قطته الحمراء المخططة ، وهي تسرح وتمرح بين الأسلاب والثياب الرثة الممزقة المرمية على ارض الغرفة الرطبة .. الدبقة ....
عندما رآني مقبلا عليه بصحبة ولده ، بدأ يتفوه ويتمتم بكلام مبهم أشبه بالهذيان ، لم أفهم منه شيئا ..، إلا إن ولده كان يفهم ما يريد ويخبرني ..... انه كهل تخطى الثمانين من عمره .. ، شاحب الوجه ضئيل الجسم ، داكن الوجه غائر العينين ، وذقنه زاغب ، يداه وأصابعه المتيبستان ، قذرتان ملطختان ببقايا الطعام وربما بالبراز أيضا .. كان يحاول صدي ، ومنعي من وضع الكانيولا في يده ... كانت رائحته نتنه ، رائحة البول تنبعث من جسمه ومن ملابسه الرثة ، إلا انه هدأ قليلا عندما وبّخه ولده بصوت عال ، فصمت عن الهذيان ...
هو الوحيد الذي بقي على قيد الحياة بعد رحيل زوجته من سنوات عدة ، ومن ثم رحيل أ قرانه الذين عاصروه في القرية إلى الحياة الأخرى . وظل هو يعيش منقطعا عن العالم الخارجي ، لا يعرف شيئا عن الدنيا ، ولا يزوره أحد من أقاربه ولا يأكل إلا ما يقدم له من وجبات الطعام الرديء ، فيتناوله وتشاركه الطعام قطته الحمراء المدللة ، فهي تشاركه في كل شيء .. الطعام والألم والإحساس والسرير أيضا ، وهي تموء لموائه وتئن لأنينه ، وغالبا ما تجدها متدثرة معه تحت بطانيته ، تستمد الدفء باطمئنان وهدوء في هذا الشتاء القارص ...
لست أدري لماذا .. ألهذا يتمنون لنا طول العمر حين نقدم خدمة للناس فيقولون لنا ( الله يطول عمرك ).. ؟ ، ألكي نعيش هكذا في أرذل العمر ، مثل هذا الرجل الذي يكابد المرض والوحدة والإهمال وسوء المعاملة ، فيما أولاده الأربعة منشغلون عنه في أمور الدنيا وملذاتها متدثرين بين ثنايا أجساد نسائهم البيضاوات الناعسات ، يتدفئون بدفئهن في الليالي الباردة ، الأفضل له لو كان قد غادر الدنيا مع أقرانه على أن يصل به الحال إلى هذا المآل ، وهو الذي كان فيما مضى من الأيام الخوالي فلاحا مكافحا مقداما هُماما لا يكل من عمل ولا يكف عن الحركة الدؤوب ، بل كان كل ما يحتاجه و يتمناه يدركه ، يزرع الأرض ويجني غلتها عاما بعد عام ، لا بل هو الذي شيد هذه الدار التي يسكنها الآن مع احد أبنائه قبل أكثر من خمسين عاما ..، إلا أن كل ما يملكه قد ورثه عنه أولاده من دون عناء ، بل هم أيضا تطوروا مع تطور الحياة وانشغلوا في أعمال أخرى غير الزراعة ، فمنهم من صار معلما وآخر موظفا حكوميا وأخر صاحب متجر ، أما بناته فقد تزوجن والتحقن بأزواجهن ولم يعاودن زيارته منذ أمد بعيد ، بعد أن تقاسم الأبناء كل شيء وهو ما زال على قيد الحياة ، بل حتى هذه الغرفة القذرة والأريكة القديمة والأسمال التي تحته أصبحت من نصيب أحد أبنائه وسوف يسلمّها حال تسليم الروح .. ! وها هو غريبا وحيدا ينتظر رحمه الله في هذا العالم القاسي .....
عاوَدته بضعة أيام لمعالجته وبدأت صحته تتحسن شيئا فشيئا ، وكفّ عن الهذيان وانقطعت أخباره عني بعدها .. وانشغلت في تدبير أمور حياتي ومشاغلي الكثيرة .. فهو كهل طاعن السن لا يفقه من الدنيا شيئا الآن ، ولا يمكنني تقديم له أفضل من ذلك ، وعلى أولاده أن يعتنوا به .. ، ولكني كنت ألحظ جفاءً وسوء المعاملة من أولاده تجاهه كونه أصبح عبئا ثقيلا عليهم ويشغلهم عن حياتهم الخاصة بل يتمنون موته في اقرب وقت ليتملصوا من مسؤولية رعايته وتكاليف علاجه ..، ولم تجد نفعا نصائحي وإرشاداتي عندما كنت أنصح بضرورة تقدير منزلة الأب واحترامه كونه هو الذي شقي وتعب فيما مضى من اجلهم طوال السنين ...
ومرت الأيام وبضع شهور ولم يستدعوني لمعالجته ولم يحدثني احد من أبنائه عنه حتى عندما أصادفهم في الطريق ، وكان البلد يمر بظروف قاسية وأزمات كثيرة ، إذ كان هذا الشتاء قاسيا ثقيلا علينا بسبب شحة الوقود واستمرار انقطاع الكهرباء وعدم توفر الأمان وابسط شروط الحياة في هذه السنوات العجاف ، بل كان البلد مدمرا محطما ، حتى انه لا يستطيع المرء الانتقال من مدينة إلى أخرى أو من القرية إلى المدينة القريبة للتطبب في مستشفياتها بسبب الأوضاع الأمنية المتردية ، فكان الناس يموتون بكثرة بسبب تلك الظروف والإهمال ولا يمر أسبوع دون أن يقام مجلس عزاء في القرية ..، وأحيانا مجلسين في آن واحد، لا بل ثلاثة ، فالموت دائما حاضر، وتعددت الأسباب والموت واحد ....
وذات يوم فوجئت بخبر وفاته ، إذ كان قد مرض واشتد به المرض ولم يبادر احد من أولاده باستدعاء الطبيب والإنفاق عليه ومعالجته ، فتوفي الرجل وانتقل إلى جوار ربه ، فارتاح وأراح من هذه الدنيا التي أهانته كثيرا وأخذت منه أكثر من ما أعطته .
ذهبت إلى مجلس عزاءه ، جلست وكنت أراقب الوجوه عن كثب ، فلاحظت أثار وملامح الندم مرتسمة على وجوه أولاده الأربعة .. كانوا ساهون سارحون في حزن وصمت عميقين ، بعد أن عاودتهم صحوة الضمير ، كونهم لم يهتموا كما ينبغي بوالدهم الذي قام بتربيتهم ، وشقي وكد من أجلهم ، وترك لهم كل شيء ، وغادر الدنيا عاريا هكذا ذليلا منبوذا ، ولم يلقى منهم غير العقوق والجفاء ...
مكثت في مجلس العزاء لبعض الوقت ، ثم هممت بالانصراف وحين كنت أصافح احد أولاده لأقدم له العزاء أجهش بالبكاء أمام الجلاس من المعزين محاولا إفهامي بأنه عمل كل ما بوسعه لأجل والده ، وتبرئة نفسه من الذنب والمسؤولية ..، فواسيته بحنو ، وغادرت المكان ، وأنا أقول في نفســـــي ( قلبي على ولدي وقلب ولدي على الحجارة ) ....
فبراير 2007
حلـــم بعيـــد المنــال
كان فقيراً معدماً من عائلة كادحة ، يعيش مع أفراد أسرته الكبيرة في بيت متواضع قديم .. كانت جميلة مدللة ومغرورة من عائلة صغيرة ميسورة الحال ، تسكن منزلا كبيرا وحديثا ، وهما معاً على مقاعد الدراسة في مدرسة مختلطة منذ سنوات ... لقد كان يهمه أمرها ووجودها كثيراً ، يحبها بصدق ويتابعها بنظراته العميقة التي تشوبها مسحة من الحزن والتمني .. ، وفي المقابل كانت تبادله نظرات الرضا والعطف والشفقة أحيانا ، والإطمئنان كونها تسأله العون والمساعدة بحكم العلاقة التي تربط أسرتيهما أحياناً أخرى ، وكثيراً ما كان يهب مسرعاً متفانياً لتقديم المستحيل لها ، ولو على حساب جهده وراحته ، كان يتفاخر أمام أقرانه التلاميذ المعجبين بروعتها وجمالها ، ومن كونه الوحيد الذي ينال اهتمام ورضا التلميذة الجميلة الأنيقة المدللة ... مرت سنوات عدة ، وأنتقل الاثنان إلى مرحلة دراسية متقدمة وكان كلما يكبر ، يكبر حلمه معه ، ولا زال يتمناها ، بل ويغار عليها حتى من نسمة هواء عليلة ... وفي ليلة حلم وردية زفوها له !.. كان سعيداً لدرجة لا يمكن وصفها ، أو تخيلها ، متيماً بها ، دخل معها عش الزوجية الساحر ألذي طالما تمناه .. بدأ يخلع عنها إكليلها ومن ثم ثياب عرسها الفاخرة برفق وتأني ، أخذ يقبل أناملها الرقيقة المطلية بدقة بالغة ويقبل كفيها ويضمها بحنان إلى صدره ويتنهد بشوق ولهفة عارمة ، حتى إذا ما إنتهى من تجريدها من كامل ثيابها ، وغدت مثل حورية من حوريات البحر ، حملها بكلتا يديه لكي يضعها على سرير لويس السادس عشر الملكي ليمارس معها الحب ، وما هي إلاً قبلتين منه على شفتيها الباروديتين وعلى عنقها الناصع البياض ، حتى دبّـت في الغرفة خربشة الجرذان العابثة بأواني الطبخ المتسخة ببقايا طعام العشاء !! ، فاستيقظ مذعوراً من نومه وتبدد حلمه ، ليجد نفسه قميئاً متكوراً متدثراً ببطانيةٍ متسخة ، غير واضحة المعالم والألوان لقدمها .. فصاح وهو ما زال في نشوة الحلم .. الله ..الله .. ما أجمل هذا الحلم الذي رأيته ..؟! ثم بدأ يشتم ويلعن الجرذان الوقحة التي بددت عليه حلمه السعيد .. وفي الصباح الباكر كان في إنتظارها ، وكالمعتاد على طريق المدرسة ، وحين إقتربت منه إنبرى لها مستجمعاً كل جرأته وشجاعته ليفاتحها بموضوع حبه ولوعته ، وما يضمره لها من شوق منذ سنوات ، وبدأ يقص عليها الحلم الذي رآه تلك الليلة ، وهي مندهشة من كلامه الغريب وغير المتوقع ، فصاحت بوجهه مستنكرة حديثه ، ناعتة إياه بالمجنون ، نافرة عنه مبتعدة بخطوات سريعة ، في حين ظل هو واقفاً في مكانه وسط الطريق مصعوقاً من ردة فعلها وجفاءها ، حينها إنحدرت من عينيه دمعتين حارقتين ، نزلت على خديه ، بعد أن مات الحب في قلبه وتبددت آماله ، ولم يبق من حلمه غير نظرات وعبرات ....
الترمز ..!
البصرة.. معركة الحصاد الأكبر
انتهت اليوم إجازتي الدورية ..... عندما حل المساء توجهت إلى محطة ( باب البيض ) في الموصل ، حيث كراج بغداد كي استقل حافلة نقل ، لألتحق إلى وحدي العسكرية في قاطع شرق البصرة ..
وفي الكراج ..، تفاجئت ، حين لم أجد واسطة تقلني .. ، بل رأيت المئات من الجنود يتراكضون لاهثين ، كي يحضوا بما يقلهم إلى بغداد أو البصرة ...، فأصبت بخيبة أملٍ كبيرة ... ، إذ انه كان لزاما علي أن أكون في وحدتي العسكرية قبل الثامنة صباحا .... وكان السيد أمر الوحدة ، قد لمّح لي أن اجلب له عند عودتي ، كيلو غراما واحدا من الجرزات الموصلية الفاخرة ، مقابل منحي يوما واحدا مساعدة على إجازتي الدورية .. ، ويوم المساعدة هذا هو حقٌ مشروع يُمنح للمقاتلين الذين هم من سكنه المحافظات البعيدة ...، ولكني تجاهلتُ الأمر .. أولا بسبب ضعف حالتي المادية .. وثانيا عدم قناعي بمثل هكذا طلب...، أي إعطاء رشوة لأيّ من الضباط ، فكيف أذن ، والحال هكذا ، أن أتأخر عن الالتحاق خلافا للموعد المقرر ، ومن دون جرزات ....؟! لا بد أن في الأمر مشكلة .... !
في هذه الأثناء دَخَلَت المرآب حافلة نوع ريم حمراء ، فتراكض الجنود خلفها وتزاحموا حولها .. وانحشروا في داخلها حشراً ..، مع حجز المقاعد الأولى للضباط طبعا ...، ولكني كنت مُثقلا بحقيبتي الثقيلة ، ولم يتسنى لي آن احجز مكانا ، ولكن ، وبصعوبة كبيرة ، حشرت نفسي مع الجنود الواقفين في وسط الحافلة وحظيت بمكان لا يتجاوز الثلاثين سنتمترا وقوفا في مؤخرة الحافلة ....، والتي ستنطلق مباشرة إلى مدينة البصرة ، وبذلك أمضيتُ أكثر من إحدى عشر ساعة من ساعات الليل ، واقفا على قدمي ، مترنحا ، حتى نزل بعض الجنود في الطريق على أطراف المدينة ، فتمكنت من الجلوس على أرضية الحافلة ... !
وصلت ساحة سعد الشهيرة في البصرة ، وثم استقليت راكبا في عجلة اللاندكروزر إلى وحدتي و م ط \5 في منطقة الجباسي خلف شط العرب باتجاه الجبهة ... فوصلت الوحدة العسكرية عند الساعة الثامنة والربع .. الحمد لله ... لم أتأخر كثيرا عن الموعد ... ، اجتزت باب النظام وهرعت مسرعا إلى ملجأي ( مقـر المفرزة الطبية ) حيث كانت وجبة المجازين قد التحقت صباح أمس ، وهم الآن في ساحة التدريب ، وبينما كنت منشغلا بتهيئة يطغي ( سريري) وتغيير بذلة النزول العسكرية ببذلة العراضات ..، ومن ثم تسليم ورقة الأجازة الاعتيادية إلى قلم الوحدة ..، دخل علي مراسل الآمر ، يسألني عن الجرزات ... ! إذ أن السيد الآمر قد لمحني مع حقيبتي من خلال شباك غرفته ، وأنا ادخل باب النظام ... وهو الآن يطلب الجرزات التي وعدته بها .. وربما السجق والحلويات الموصلية .. فمن يدري ..؟ ! ولكني صعقت للأمر .. ولم أستطع تقديم عذرا معقولا .. ، لأنني توقعت الموضوع مجرد مزحة .. ولكونني منقولا حديثا إلى هذه الوحدة العسكرية ، ولم أتعود تقديم هدايا للضباط أو تكوين علاقات مع أحد منهم .. كما إنني لست بالجندي الاعتيادي .. بل جندي خرّيج طبابة عسكرية ، ولي شخصيتي المستقلة .. ومسئول المفرزة الطبية ...، لكن السيد الآمر يعتبرني أسوة ببقية الجنود ....، فلا بأس ليعتبرني ما يشاء .. ولكن أن يطلب مني الرشوة ..؟! فذلك خط أحمر ... ذهب مراسل الآمر بخفي حنين ..، ونسيتُ بل تناسيتُ الموضوع .. وبدأت بمزاولة عملي المعتاد والتهيؤ للمكوث في الوحدة لمدة ثماني وعشرون يوما .. ، ولم يُرسل الآمر في طلبي ...، لكنه كان يدبر لي أمرا بليل .. !
عاودتُ مزاولة عملي في المفرزة الطبية بكتابة وتخطيط عيادات الجنود المرضى الذين سيأتون للمفرزة وتهيئة لِستة بالأدوية التي احتاجها ، لجلبها من المذخر .. ثم فتشت مطبخ الضباط والمراتب وتأكدت من سلامة الأرزاق ووجود مياه الشرب ، ثم ذهبت إلى مستودع الأسلحة واستلمت بندقيتي ..، حتى كانت الساعة الحادية عشرة ، حيث ظهرت طلائع الجنود المنسحبين من ساحة العرضات إلى داخل مقر الوحدة ... ، ثم تمّ توزيع الأرزاق ، بعض حساء العدس ، مع صمون الجيش القاسي ، ثم التقيت بزملائي من جنود المفرزة الطبية ، إلاّ مساعدي الذي كان قد غادر مساء أمس بأجازته الدورية ... قسّمت الواجبات الليلية على ورقة وأرسلت نسخة منها إلى قلم الوحدة ... إلى أن حان وقت (القصعة ) ، فتناولنا ما تيسر من الرز مع مرقه هواء الشهيرة .. ، وما إن ارتميت على السرير لأريح جسدي المنهك طوال الليل في الطريق ، حتى أذيعت أوامر القسم الأول بالمايكروفون وبصوت ر.ع محمد ، الجهوري القوّي .. ، ولما كانت السماعة الكبيرة والوحيدة متجهة في اتجاه مقر المفرزة الطبية .. كما أن الهواء كان يهب في اتجاهنا ، حاملا ذلك الصوت الجهوري القوي .. ، فكان أول ما أذيع من خبر هو أسماء المقاتلين من الذين تم تنسيبهم استخدام إلى لواء المشاة 418 ولمدة شهرين متتاليين ..!! وكان اسمي أول هذه الأسماء !! ... ن ع خ مكلف طبابة عسكرية (ج ف ز )، ينسب إلى الفوج الأول .. ن ع مطوع ( س م س) .... وهكذا خمسة مقاتلين إلى سرايا الفوج الخمسة بضمنهم سرية المقر طبعا .. لكني لم آبه للأمر رغم عدم وجود مساعدي ولم أعارض الأمر العسكري ، بل كنت أحبذ المجازفة وخوض غمار الحرب عن كثب ، على أن أكون جنديا خاملا خارج المعركة الحقيقية ، ورغم كوني منهكا جدا ، هيأت حالي ورزمت يطغي مرة أخرى وملأت زمزميتي بالماء ونظفت بندقيتي وربطت جعبة الرصاص على صدري .. وفي هذه الأثناء كانت الساعة قد قاربت الثانية ظهرا ، حضرت سيارة الايفا أمام المفرزة الطبية بصحبة السائق مع ملازم ثان ، لتقلنا إلى اللواء الذي تم تنسيبنا إليه في عمق الشرق المحاذي لإيران خلف بحيرة الأسماك العتيدة ..... رمينا يطغاتنا على ظهر عجلة الايفا ، ثم قفزنا مع ما بحوزتنا من أسلحة وعتاد وطعام ، وانطلقت بنا العجلة ، وثمة مسحة من الحزن والحيرة تفترش وجوهنا الكالحة .. بينما كانت العجلة تهدر وتسرع بنا ، كنا نسمع هدير المدافع الثقيلة وتساقط القذائف وانفجارها هنا وهناك ومن بعيد وقريب ... ولما قاربت الساعة الرابعة عصرا ، وصلنا مقر الفوج الأول وتوقفت العجلة أمام ملجأ آمر الفوج .. وهو ملجأ محفور داخل الأرض ومغطى بالتراب والارامكو ( صفيح مضلع) ، ضمن ساتر ترابي .... ، وبلمح البصر سلم الملازم الثاني كتاب تنسيبنا ، ثم استقل العجلة واقفل عائدا مع السائق إلى وحدتنا في المقرات الخلفية و م ط 5 فق 8 .. استقبلنا آمر الفوج الأول ببرود وعدم اكتراث ، ثم استدعى رئيس عرفاء الوحدة ، وأمر أن يقسمنا على سرايا الفوج الخمسة بما فيها سرية المقر التي تم تتسيبي إليها .. ودلـّـني إلى ملجأ قريب محفور تحت الأرض ، قريبا من ملجأه المحصن ، لكوني أنا الوحيد من بين الخمسة المنسبين كنت نائب عريف خريج طبابة عسكرية ..
كان آمر الفوج عائدا تواً من اجتماع الآمرين في قيادة الفيلق ..، وبما أن هذا اللواء الذي تم تتسيبي إليه قد تجحفل في موقع متقدم من الأراضي الإيرانية – العراقية .. أي في ارض مشتركة متنازع عليها تسمى (اللسان ) ، حيث تدور معارك طاحنة كل يوم بين قواتنا والقوات الإيرانية للاستحواذ عليها والسيطرة على ارض المعركة ، لذلك فان خطة مدروسة قد وضعت لاستدراج العدو الإيراني المحتشد في الجانب الأخر ، وقد سُلّمت نسخة من الخطة الجهنمية والمهمة جدا بيد آمر الفوج الأول الذي نحن في ضيافته ، مع خريطة مهمة عن تفاصيل ارض المعركة .. ، لذا كانت من الأهمية ، بحيث يعتمد عليها مصيرنا ومصير المئات من الضباط والجنود المرابطين في ذلك القاطع من جبهة القتال ، بل مستقبل الجيش والبلد أمام الرأي العام العالمي وعلى أعلى مستوى من القيادة .. ، إلا أن السيد آمر الفوج كان يبدو قلقا جدا ..، يتحرك جيئة وذهابا .. هنا وهناك ، ويتفقد أحوال ومعنويات الجنود وأمراء السرايا وهم رابضون في مواضعهم القتالية ، وكان بصحبته (ترمز) ماء من البلاستك أينما حل وجال ، رغم إن الجو لم يكن ساخنا جدا ، كي يستوجب تكرار شرب الماء... !!
كان المساء يزداد حلكة ًوجنونا ً. . أصوات الانفجارات على طول خط الجبهة لا تهدا ويزداد الصوت وضوحا كلما دخلنا في الليل ، عاد السيد آمر الفوج من تفقد ثكنات الفوج ... السرايا والمقاتلين واطمئن من وصول قصعة العشاء لآخر جندي في آخر موضع قتالي ، لكن الجو كان مشحونا بالخطر ، كوننا منطقة حجابات وفي تماس مع القوات الإيرانية التي لا تنفك عن مباغتتنا أثناء الليل من اجل الحصول على موطئ قدم في الأرض التي في حوزتنا .. بدأ القصف المدفعي يزداد ضراوة وأزيز الرصاص يتطاير ، ومشاعل التنوير تُطلق في السماء ، فتكشف كل ما موجود على الأرض ، وتحيل ظلام الليل إلى نهار .. كانت عقارب الساعة قد اقتربت من الثانية عشرة ليلا .. حينما كان جسدي منهكا جدا ، كوني لم أذق طعم النوم ليلة البارحة وأنا في طريقي من الموصل إلى البصرة ، واقفا على قدمي داخل الحافلة ، حتى هذه اللحظة ، إذ قضيت النهار كله يقظا ، فلن أقوى على عمل شيء سوى الاستسلام للنوم داخل ملجآي محتضنا بندقيتي ، ثم غفوت إغفاءة عميقة في ظلام الملجأ غير آبه لما يدور في الخارج من هول ، لأن الوضع أصبح مألوفا في جبهة القتال ، معتقدا إنها مجرّد مناوشات يومية وجس النبض أو قرقعة سلاح لا أكثر .. لكن الأمر تطور وتمادى وخرج عن السيطرة .. ، إذ أن القوة الإيرانية المهاجمة كانت اكبر مما هو متوقع ، وحسب المعلومات الاستخبارية الواردة لمقر قيادة اللواء والفوج الأول ، كانت قوة تزحف ببطء ، لتحتل مواقعنا المحصنة ، والإيرانيون يتميزون بطبيعة مستميتة إثناء الهجوم .. فهم يهجمون بأعداد هائلة ، غير آبهين لحقول الالغام والنيران التي تطلق نحوهم ، كونهم ذاهبون إلى مدينة كربلاء المقدسة ، والتي تقع حسب اعتقادهم خلف هذه السواتر الترابية ! .. وهذا أهم شيء عندهم في هذه الحرب ، أن يموتوا شهداء في طريق كربلاء ... !!
في هذه الأثناء أحسستُ بان يداً تهزني بقوة ، إذ كان السائق المدعو (عطيّش) وهو من أهالي الناصرية ، يصيح بأعلى صوته .. انهض .. انهض أيها الجندي الخامل ، الإيرانيون دخلوا علينا ، نهضت على الفور مذعورا وتركت كل شيء ورائي داخل الموضع ، إلاّ بندقيتي وجعبة الرصاص ، وأنا خارج من الموضع ، كان آخر ما تبقى من الجنود ينسحبون تحت جنح الظلام ، ويتركون مواضعهم هم وأمراء الفصائل ، وفق انسحاب مضطرب ، نظرت إلى ملجأ السيد آمر الفوج ، كان خاليا مهجورا معتما ، فأدركت بأن الوضع خطير ، أخذت أهرول خلف السائق عطيش وهو يدلني إلى الطريق حيث المقر البديل لفوجنا في منطقة المثابة .. ، بعد وصولي مع آخر ما تبقى من الجنود أجرى رئيس عرفاء الوحدة التعداد للتأكد من انسحاب آخر جندي من ارض المعركة ، لكني انتبهت للسيد آمر الفوج الرائد (محمد) ، كان قلقا جدا غاضبا يصيح ويزعق في وجه الضباط والجنود ويضرب كفا بكف ، كونه نسي الترمز الذي كان يرافقه أينما حل وذهب ، فتعجبتُ من تفاهة الأمر، وارتسمت على شفتيّ ابتسامةٌ ساخرة ، لم يلحظها احد وسط الظلام الدامس .. ، لكن السيد آمر الفوج لم يكف عن الزعيق والصراخ موجها كلامه إلى مساعده النقيب جعفر وآمر سرية المقر ، متهما إياهما بالإهمال والتقصير .. إذ كان مُصرا على إعادة ذلك الترمز الغريب بأي ثمن كان ..، فلم يتطوع أحدا من الجنود بالمجازفة والرجوع إلى المقر القديم لإحضاره ..!!، ومن دون شعور منّي تقدمت وأديت التحية للسيد الآمر أمام حيرة ودهشة الضباط والجنود ..، وسألته سيدي أين استطيع أن أجد الترمز ..؟ هل أستطيع إحضاره لك ..؟! ، فصمت الآمر واتسعت حدقتاه ، وهو يتفحصني وسط الظلام ، ثم قال أليس أنت الجندي الاستخدام الذي جاء اليوم ..؟! قلت نعم سيدي ... خيّم صمتٌ رهيب على الجمع الواقف .. ثم صاح الآمر بسرعة ، انه موجود تحت سريري داخل الملجأ .. أحقا تستطيع إحضاره .. أعطيك إجازة سبعة أيام ... عشرة ... كم تريد .. فقط احضر ذلك الترمز اللعين ..
بما إن ملجأي الذي أودعوني فيه عصر اليوم ، كان قريباً من ملجأ الآمر المحصن ، لذلك استطيع بسهولة تمييز مكانه ، ومن أجل إنهاء المشكلة ، تطوعت أن أجازف بحياتي ، فتقدمت لهذه المهمة الجنونية ، إضافة إلى حاجتي الماسة للأجازة من اجل العودة إلى دياري وأتقدم لخطبة من أحبها .. ، فها أن الشوق بدأ يهدني منذ اليوم الأول لفراقها .....، لذا ازداد إصراري ولهفتي لإحضار ذلك الترمز مهما كلف الأمر ..
قال لي الآمر خذ معك ما تريد من العتاد والرمانات الدفاعية والهجومية .. وسأتدبر خمسة من أشجع الجنود لحمايتك وإسناد ظهرك ...، المهم أن تأتيني بالترمز ... ولك ما تريد ....، ثم أمر مساعده باستدعاء خمسة من الجنود من السرية الأولى ، ورافقوني مكرهين ، وعلى مضضٍ ، متذمرين من سذاجتي وبلاهة عقلي ، وهم يشتمون ويلعنون حظهم العاثر ....، وانطلقنا تحت جنح الظلام .. ، بعد أن تزود كلٌ منا ببندقية مع مائتان وأربعون أطلاقة ، ورمانتين دفاعيتين وهجوميتين .. كنا نتقدم بحذر شديد نحو الأرض التي انسحبنا منها ، متوخين حقول الألغام ومشاعل العثرة ... وما هي إلا أقل من نصف ساعة ، حتى بان ملجأ الآمر تحت ضوء القمر الخافت ، فتركني الجنود الخمسة على مسافة مائة وخمسون مترا ، متخذين مواقعهم للمراقبة والدفاع في حذرٍ وتوجس .. ثم بدأت ازحف على بطني ببطيء حتى ملجأ السيد الآمر حذراً، متفحصا ًالمكان رويدا رويدا .. لما وصلت باب الملجأ لم يكن هناك جنود إيرانيون بداخله ... بل كان باب الدخول إليه محطما بواسطة قذيفة آر بي جي 7 خاصة بالتحصينات ، وكان معتما من الداخل ، مهجورا ... فقلت لنفسي ( الحمد لله .. لا يوجد احد هنا ) ثم ولجت إلى الداخل في وسط الظلام الدامس وتحت الأنقاض المحطمة والغبار والدخان وبدأت ابحث متحسسا بيدي اليمنى بحذر شديد ، وانأ أشعل أعواد الثقاب ، الواحد تلو الآخر .. وما هي إلا لحظات حتى لمست يدي جسما بلاستيكيا أملسا ...! فسحبته بسرعة ، كان خفيفا خال من الماء ، فتعجبت من خفته وتشبث الآمر به واهتمامه ، لكنه كان مقفلا بإحكام بواسطة شريط لاصق ، فهممت بالخروج من الملجأ ، متفحصا الأجواء ، فلم أجد أحدا ، إلا بعض الأصوات واللغط لم افهم منها شيئا ..واصوات أطلاقات من سلاح خفيف في الجوار ، أنهم الجنود الإيرانيون يحتفلون بالنصر خلف هذا الساتر الترابي ... كان دوي المدافع وأزيز الرصاص قد هدأ قليلا ، عندما كانت الساعة تقارب الرابعة فجرا ...، قفلت زاحفا بصعوبة بالغة بصحبة الترمز مع البندقية والعتاد ، وكانت الثواني تمر علي كأنها ساعات طويلة حتى اقطع هذه المائة وخمسون مترا المتبقية ، لأوافي رفاقي المقاتلين الذين ينتظرونني خلف الكثبان الترابية المتشعبة .. حتى أصبحت قريبا منهم فعرفوني ، وهم يهمسون بصوت رهيف .. أبقى منبطحا على الأرض لا تنهض لئلا يرصدونك ... حتى اجتزت التلة الترابية ، فنهضت واقفا على قدمي .. وبدأت أهرول ببطء متوسطا الجنود الخمسة الذين كلفوا بحمايتي إلى منطقة المثابة حيث يتجحفل فوجنا ... ووسط ذلك الصمت والظلام والسكون الرهيب ، صرخ بنا صوت مدوي شل أوصالنا ، صائحا بنا ( قـــــــــــــــــف )... سر الليل... وعلى الفور أدرك احد الجنود الخمسة من انه صوت رئيس عرفاء السرية ( سامي جلوب ) ، فرد عليه نحن جماعة الترمز.. جماعة الترمز .. نحن الفوج الأول .. إذ أن الآمر كان قد أرسل قوة قتالية أخرى في أثرنا لحمايتنا ، ولكي يدلونا على الطريق ، فصاح هل أحضرتم الترمز .. ؟ أجبته نعم ..ريس نعم .. أحضرنا الترمز .. وفي هذه الأثناء اشتعلت الأرض التي خلفنا ، بنيران المدافع والهاونات وراجمات الصواريخ .. فتحولت إلى جحيم .. هرولنا جميعا حتى المقر البديل لفوجنا ، حيث كان الآمر والضباط في انتظارنا على أحر من الجمر ، فتقدم الآمر نحوي مسرعا وانتشل الترمز من يدي بقوة وفتحه .. ومد يده في داخله واخرج منه ورقة كارتونية ...، وتنفس الصعداء وهو يردد الحمد لله .. الحمد لله ..
الخطة موجودة في الترمز ... اندهشت للأمر وأنا أشاهد تلك الورقة من الكارتون .. على نور ضياء الفجر الأول .. ثم علمت بان الترمز كان بداخله الخطة الحربية المرسومة للقطاعات في اجتماع الفيلق ،مع خارطة لجميع المواقع المهمة .. حيث تقوم الخطة على انسحاب قواتنا لاستدراج قوات العدو وثم دكها بالصواريخ وقنا بر المدفعية الثقيلة ، لتكبيد العدو اكبر عدد من الخسائر بالأرواح والمعدات .. لكن السيد آمر الفوج كان قد أخفى الخطة الحربية في داخل ذلك الترمز .. ونسي الترمز في الملجأ عندما شاهد بالناظور الليلي قوة من الجنود الإيرانيين تتقدم نحو ملجئه ، فهرب ، لكي لا يصبح صيدا ثمينا في قبضتهم . ولئلا تقع تلك الخطة في يد الأعداء فيكون مصيره ومصيرنا الهلاك المحتوم .. في الحقيقة إن الله وحده هو الذي نجاني وأنقذني من تلك المغامرة الخطيرة ، وبسبب سذاجتي وقلة خبرتي في جبهات القتال .. وبسبب حبي الكبير وتعلقي بمن أحببت ، أقدمت على المجازفة بحياتي لكي احظي بأجازة لقضاء اكبر وقتا مع حبيبتي .. هناك على ضفاف نهر دجلة في الموصل ..
ولو كنت قد تأخرت عشرة دقائق أخرى لكنت الآن في خبر كان وتحولت إلى أشلاء ممزقة ، بسبب تلك الخطة المرسومة ، والتي تقضي بالانسحاب الجزئي .. ثم دك تلك المواقع بالمدفعية الثقيلة .... علما بأن السيد الآمر لم يُعلم أحدا من القادة والمراجع بأمر فقدان الخطة الأمنية .. وأنه أرسل من يعيدها ....
شرق البصرة \ 1987
الفسُحـة ...
ينتابه قلقٌ واضطرابٌ شديدين ، في انتظار أن يحين يوم أجازته ، لكي يسافر إلى مدينتـــــــه ( البصرة ) البعيدة القابعة في أقصى الجنوب ، لأنه ، هناك ، سيلتقي حبيبته في السفرة العائلية المرتقبة التي تنظمها إحدى الجمعيات الخيرية ... لكن الأيام لا تمّر ، إلا ببطءٍ ثقيل ...، فانتظر ، إلى أن حان ذلك اليوم ، وأُذِنَ له بالسفر من قبل مرؤوسيه في العمل ، فحزم أمتعته وأشيائه وأشلائه المعذبة الممزقة ، وأنطلق مكبّلا بهمومه وأثقاله ، صوب محطات الجنوب ، في رحلة طويلة شاقة ..، حتى وصل مدينته الحبيبة التي غاب عنها طويلا ، ثم التقى حبيبته عشيّه يوم السفرة المرتقبة ، لكن ذلك اللقاء كان سريعا خاطفا ، لأنها كانت برفقة والديها ، وفي مكان مكتظ بالناس ، فلم يجرؤ أو لم يتسنى له التحدث معها ، إلا انه استطاع أن يكسر حاجز الخوف ، وطوق الحصار المفروض حولها ، أن أومأ لها بإشارةٍ مؤكداً لها حتمية اللقاء غدا ....
منذ صباح اليوم التالي ومع جوّ مفعم بنسمات ربيعية وشمس دافئة خجولة ، خرج متهيئا ، هُماما ، قاصدا موقف الحافلات التي ستقلّهم إلى البر البعيد ، في خارج المدينة ، إلى منطقة صحراوية ، تسمى الأثل ، لوجود أشجار قصيرة فيها تسمى الأثل..... فكان هو أول الحاضرين ، ينتظرها في ساحة التجمع والانطلاق .. كانت الدقائق تمر بطيئة ..، وعيناه جامدتان مسمّرتان على الطريق الذي يؤول إلى بيتها ، والذي سوف تأتي منه حتما ، حينما كانت حشود الناس تتجمهر قرب الحافلات .. ، فلم يهدأ له بال ، حتى لاحت لناظريه من بعيد بصحبة والديها وشقيقها الأكبر ، وشقيقتها الصغرى ، وهي تتقدم بهدوء محملة ببعض أمتعة واحتياجات السفرة .... ومن بعيد التقت عيناهما ، وتبادلا نظراتٍ عميقة ، مرهفة ، يشوبها الحزن والشوق والحنين والحرمان ... لا بل التقى القلبان المعذبان ، النابضان بقوة ودفئ الحب الذي يسري في أعمق أعماقهما .... ولما حظر كل الناس واكتمل عددهم ، تحركت الحافلات تباعا في طريقها إلى البر البعيد خارج المدينة .
وهناك ، في نهاية المطاف .. ، وبعد أن ترجّل الجميع من الحافلات ، واختاروا أماكنهم مع أمتعتهم بين شجيرات الأثل ..، بدأ على الفور يبحث عن مكان وجودها ، حتى رآها ، ورأته مقبلا نحوها من بعيد ، فأقترب يخطو بالقرب من مكان تواجدها ، وبغفلة من أنظار شقيقها ووالدتها ، أومأ أليها بإشارة من إصبعه ، وتحرك مُسرع الخطى يتقدمها ، فتبعته بتمهل ، حتى أبطأ قليلا ، فأدركته ، وسارا معا مبتعدين عن الناس إلى أن تواريا عن الأنظار خلف شجيرات الأثل النائية .
قال .. هاتي يدك...
وضعت كفها بكفه ... فتشابكت الراحتان بقوة .. كانت كفها بيضاء مكتنزة ملساء دافئة .. ، وتحت شجرة قاصية وارفة ، جلسا ليستريحا .... قال لها بنبرة آمرة .. اقتربي مني قليلا ..
اقتربت منه حتى ألصقت جنبها الأيمن بجسده من الناحية اليسرى ... ، فأحس بدفئها وحرارة جسدها ..، أخذ راحتها البيضاء المدورة بكلتا يديه ، وبدأ يمسدها برفق ، وينظر إلى أناملها المطلية بالأحمر القاني بعناية ودقة ... ثم رفع كفها بحنوٍ إلى فمه ، وقبلها مرة ومرتين وثلاث .. ثم قبّل راحة يدها ، والصقها على فمه ، كأنه يستنشق عطرها وعبيرها مثل زهرة فواحة يانعة ...، ولكنها لم تمانع من ذلك الفعل ...، فشعر بنشوة عارمة تسري في جسده ، بينما بدأ جسدها يسخن بسرعة وتوردت وجنتيها واحمرت حياءً وخجلاً ، لكنها كانت راضية كل الرضا ومستسلمة لكل ما يفعله معها ، كونها تحبه لاكثر من عامين ، ويحبها بكل جوارحه ، لكن شاء القدر أن يبعده عنها ، بعد تخرّجه ، وبسبب تعيينه بوظيفته في محافظة بعيدة في الشمال ... ، لكنه لم ينقطع عنها كثيرا، فكان يزاورها أو يلتقي معها خلسة ويهفو إليها دائما ، كلما عاد بأجازة من عمله ...، عندما وجدها استساغت الأمر، ولم تمانع من أن يمسّد ويقبل راحة يدها وكفها الجميلة البيضاء المدورة ، وأناملها الرقيقة الجميلة .. ، تمادى في غيّه وطمع في المزيد من الاستمتاع ... ، ثم قال ... دعيني أن أنام برهة في حضنك الدافئ ... ترددت قليلا ..، في بادئ الأمر... لكنه أصرّ على أن يفعل ... ، فدفع برأسه إلى حضنها بلهفة وحنوّ ، فشعرت بقشعريرة ورعشة تسري في جسدها ، فوضعت كلتا يديها تحت رأسه ، لكنه امسك بإحداها وسحبها إلى شفتيه وأخذ يقبلها بحرارة وشوق ، فسقط رأسه في حضنها الدافئ ..... تحركت أناملها تحبو بهدوء متلمّسة تقاسيم وجهه وذقنه الحليق .. ، وتمرر سبابتها على شفتيه وهو يقبلها ، تارة وتعبث بأناملها بخصلات شعره السبل ، ثم تجرأ وقال مرة أخرى ... أريد أن أقبلك من فمك ..! انتفضت غاضبة وهي تهم بالانصراف ... ، لكنه لاذ بالاعتذار وهو يرجوها أن تمنحه برهة ًمن الوقت ، كي يظلّّ رأسه مرتاحا في حضنها ، متمتعا باستنشاق عطرها ورائحة جسدها العبقة برائحة البراءة والطفولة ، فكانت تلك اللحظات الجميلة من اسعد وأعمق اللحظات ، لم يعش مثلها لحظات جميلة في حياته قط .
قالت بغنج ، وهي تفتعل الغضب .. إذا تريد منّي البقاء معك ، كف عن طلباتك الملحّة هذه ..هناك في البعيد القريب ... وبين شجيرات الأثل ، كان نفر من الناس يخطفون ذهابا وإيابا ، كالأشباح ... وثمة بعض الصبية يلعبون الكرة ، ولكن عندما جال نظرهما ، مستكشفان ما حولهما ، اكتشفا ، وبالقرب منهما ... وتحت شجرة مجاورة ، ثمة عاشقان يافعان ، يتبادلان القبلات بحرارة ..!
فتشجعا ، إذ رأيا ذلك المشهد ...قال ... حبيبتي ..؟
أجابت نعم ...
قال ... هل تحبينني ...؟
قالت .. وهي تطبق شفتيها ، وتهمس له بصوت خافت .. أحبك..أحبك ..
قال ... أرجوك أن تقوليها بصوت عال ... أحب أن أسمعها عشرات المرات وبأعلى صوتك..
تنهدت بحسرة وحرقة ... وترقرقت عيناها بالدموع ... وقبل أن تتفوه بشيء..، وضع كفه على فمها ... وقال ... كفى .. كفى .. لا تقولي شيئا .. لقد تأكدت من حبك لي من بريق عينيك وتنهدات قلبك .... لكنها قبّلت أنامله التي اصطبغت بلون شفتيها الأحمر القاني ، وانحدرت على خديها دمعتان حارقتان ...
قال ... حبيبتي ...
قالت ماذا .....
قال ... أريد أن أموت الآن ..
قالت ... حاشاك حبيبي .... ، وهي تداعب شعره الخفيف وتمرر أصابعها بين ثناياه برفق وحنو ، وهي ترتعد ، وتشعر بلذة عارمة وقشعريرة تدب في جسدها المكتنز ، والذي بدأ يسخن كثيرا بسبب تدفق الدم بغزارة في أوصالها ..
رفع رأسه من حضنها ... ، وبدأ ينظر إلى وجهها القمري ، الناصع البياض ، ويتفرّس في ملامحها الحزينة ، ويحدق في عينيها الدامعتين ، ويمسح دمعها من خدها ... فأحتضنها وضم جسدها إلى جسده بكلتا يديه وأخذ يقبل شفتيها بحرارة وشوق ولهفة ، حتى شرب من رحيق روحها العطشى المعذبة .... كانت شفتاها كجمرتين مستعرتين ...، عندما كادت ان تغيب عن وعيها ، امتدت يده لتفك ازرار قميصها الشفاف بهدوء ، حتى اصابها نوع من الخدرالحذِر، فتمددت على الارض ، بما يشبه الغيبوبة ، وهي تتنهد وترتعش من نشوة عارمة تسري في جسدها ..، وما انفك يلهب ثغرها وصدرها وثدييها المكتنزين المدورين بأحر القبلات .. حينما كانت الشمس تبسط أشعتها الربيعية الدافئة على أرجاء المكان ... بدءا يذوبان كذوبان الجليد بدفء الحب .. ثم يتساميان ، ليصبحا قطرة دمع ونبع واحدة ...
البصرة
الهاجس ...
كان يراودني هاجسٌ ، يُقلقني .... وأملٌ كبير، وتحدياً يدفعني للمقامرة ... ، أن اقهر جبل مكحول ، وارتقي قمته العالية ... وانظر من هناك إلى ما خلف الجبل ، وما تحته ، والتقط صورا للعالم الواسع من فوق ، كالنسر المحلق في السماء .... ومرت أيام الصبر والانتظار الطويل ، حتى جاء ذلك اليوم الذي يُسمح فيه بالصعود إلى الجبل ، وهو يوم واحد محدد في العام ، يوم تذكار الربان هرمزد ...، وسافرت من كركوك إلى الموصل قبل يوم ...، وفي اليوم التالي ، استأجرت سيارة أجرة ، مع بعض أفراد عائلتي ، من الموصل إلى جبل القوش ، حيث يقع الدير ، وهناك كان الزحام على أشده ... ، الآلاف من الزوار ، مَن قدموا من كل محافظات العراق ، ومن خارج البلد ..، وبعد أن مكثت قليلا مع عائلتي ، تركت العالم الضاج من حولي وانطلقت راجلا لتحقيق أمنيتي ، صعودا تدريجيا ، حتى وصلت مع العشرات ، إلى صدر الجبل حيث مزار الربان هرمزد .. وزرت الأماكن المقدسة مع الزوار، ودخلت أقبية الدير والمغاور ا
أن تكون فردا في فصيل الأسود، خيرا لك من أن تكون قائدا للنعاج ... الحياة ... صفحةٌ بيضاء .. نحـــن البشر نمــلأها بالأحــداث والانجـازات والذكريات ، سعيدة كانت ، أم مريرة ... ونرسم فيها بصمتنا ، أفرادا وشعوب .. هناك أحداث كثيرة ..، منها جسيمة خارجة عن طاقات البشر ، كالزلازل والكوارث البيئية والطبيعية والكونية .. وهناك أحداث صغيرة مـن صنع البشر .. حروبا كانت ، هنا ، أو هناك .. أو انجازات فردية أو جماعية ... ما يهمنا نحن صغار البشر ... أما أن نكون .. أو لا نكون .. نسعى دائما إلى تحقيق ذواتنا ، بأي شكل من الأشكال .. يقول فكتور هيجو ( عش دائما في وسط الحدث ، والق بنفسك في وسط الحرائق ) .. هناك أناس يجعلون الأشياء تحدث ، وأناس يرقبون الأشياء وهي تحدث ، وأناس لا يعرفون إن شيئا قد حدث ، ومن واجب المثقف أن يسلط الضوء على بقع الظلام المعتمة .. على أوكار خفافيش الليل المختبئة هنا وهناك ، وان يصوغ الخبر، أو الحدث بطريقة أدبية لائقة ... ثمة أحداث مرت في حياتي ، وحياة بعض المقربين لي ، ومنها عشتها مكرها لأنها فُرِضَت علىّ فرضا ً، لما كانت هناك حربا لا ناقة لي فيها ولا جمل ، مشتعلة بي بلدي ، وبلد جارة ، فكنت كغيري من الناس حطبا في اتونها ، ولكني كنت دائما أدّون ملاحظاتي واكتب مذكراتي لحظة بلحظة .. وبعد سنوات ، ارتأيت أن أحوّل هذه المذكرات إلى قصص قصيرة ، بعد إن أجريت عليها بعض التعديلات من ناحية التعبير واللغة .. ولكنها أحداث حقيقية من الواقع المأساوي المرير .. أتمنى أن تنال استحسان القراء ....
تحياتي ...
الإهداء ..
إلى ذلك الزاهد في الدنيا
الذي رحل عني .......،
قبل أن يرى باكورة أعمالي ..
لكنه ما زال يراقبني ...
وأنا أخطو ببطء........
فيرتاح ... ويرضى ...
وينام قرير العين ...
جميل فرنسيس
2012
ذكريات في زمن ألحرب
هدوء العاصفة ......
السماء داكنة مكفهرة ... الظلام ينتشر سريعا على هذه السواتر الترابية القذرة ، والمعفرة برائحة البارود والشعواط والاحتراق ... والليل تقدم نحونا من جهة الشرق ، وبدا الظلام يبتلع كل شيء.....
ولجتُ إلى داخل ملجأي المحفور في باطن الأرض ، وأشعلت قنينة التمر والكيروسين ، كي لا يغمرني الظلام ، فارتفع خيط من الدخان الاسود ، وتوهج ضوء خافت ، فضح محتويات الملجأ المؤثث بالرصاص ، وشواجير بندقيتي التي أسميتها (صبيحة) ! ، كونها تلازمني ليل نهار وتعايشني في السراء والضراء .. وكانت القصعة مركونة قرب فتحة الدخول إلى الملجأ ، وَظهَرَ يطغي ( فراشي ) الذي ما زال مرزوما بإحكام ، بحبل سميك ... ، واحمد الله لأني وجدت صفيحة من الجينكو داخل هذا الموضع ، عليها بطانية قميئة ممزقة .... فمن يدري ، ربما كان هذا الملجأ الراقي لآمر الحظيرة أو رئيس عرفاء السرية ، بسبب وجود تلك الصفيحة المثبتة علــى أ كياس الرمل بعناية... فتحت يطغي فوق الصفيحة ، وقبل أن استلقي عليه ، لاحظت شيئاً يدب بسرعة ليتوارى عن ناظري ، فأدركت على الفور من إنها عقربه !... سحبت طرف البطانية بقوة ، فسقطت العقربة على الأرض فسحقتها بكعب بسطالي الثقيل فتحولت إلى أشلاء ...
فتحت جعبة الأرزاق وهي عبارة عن حقيبة من قماش مخملي ، وجدت بداخلها ثلاثة صمونات (صمون الجيش ) نصف يابسات مع أربعـــــــــة ( رؤوس حربية) من البصل الأبيض مع حبة طماطة (مسحوقة) ! كانت زمزميتي مملوءة بماء شبه ساخن .. ، ولا أمل بالقصعة وقت العشاء في هذه الليلة المضطربة ، وربما حتى نهار الغد ، كوننا استلما هذا القاطع اليوم ، وقبل سويعات قلائل ... ولأنني دائما أفضل موضعا انفراديا على الاختلاط بهؤلاء الجنود الثرثارين في فوج المغاوير، الذين أعتبرهم أسوأ شريحة في الجيش العراقي ... ، وكنت حال وصولنا لهذه الأرض قد قسّمت أفراد المفرزة الطبية الذين هم بإمرتي على سرايا الفوج الأربعة ، اضافة لسرية المقر ... إذ كان العدو الإيراني يعلم باستلامنا نحن المغاوير هذا القاطع .. وكان يتوجس من وجودنا وحذرا جدا منا ، كوننا لقنّاه دروسا بليغة في معارك سابقه ، ولكن بين آونة وأخرى يطلق علينا بعض قذائف مدفع الهاون ( 106) ملم ، لجسّ النبض ومعرفة رد فعلنا وعددنا من قوة النار التي نرد بها ، لكونه أي العدو الإيراني ، لا يبعد عنا غير مسافة 500الى600 متر ، ويفصلنا عنه بعض السواتر الترابية ، وارض مفتوحة ، (حقل ألغام) متنوع ..، مضادة للأشخاص والدروع والعجلات ، ومشاعل العثرة ... عند التاسعة مساء أصبح الظلام حالكا كثيفا ، ولأن العدو يختار الليالي الداكنة المعتمة للهجوم دائما ... ، وفي أثناء ذلك الصمت والسكون ، سمعنا فجأة صوتا مدويا ملأ الأرجاء ... !، وبنبرة متناغمة واحدة مدوّية .. كان هناك آلاف من جنود العدو ، محتشدون ، وهم يصيحون (الله أكبر .. خميني رهبر) (الله أكبر.. خميني رهبر) ، فعّم فيضٌ من الخوف والذعر بين صفوف جنودنا الذين بدؤوا يتراكضون وبتهيئة البنادق ومواضع الرمي على السواتر المحصنة بأكياس الرمل ، وكنت اسمع بعض من تعليقات الجنود الخائفين ، عندما يمرقون قرب موضعي ، إذ كان تعداد فوجنا لا يتجاوز أل ( 350) مقاتل مقابل هؤلاء الآلاف من جنود الأعداء ! .. في هذه الأثناء جاءني مراسل آمر الفوج ، وهو ينادي بأسمى من خارج موضعي ، بأن السيد الآمر يطلبني على الفور..! ، تقدمني المراسل ، وأنا أسير خلفه بتوجس ، و لما حضرت أمام السيد الآمر ، كان بصحبته في الملجأ السيد المساعد مع آمر سرية المقر ، وكان مرتبكا خائفا من الهجوم المرتقب .. ثم بدأ يملي علي بعض الأوامر ، بخصوص الحيطة والحذر واليقظة والاستعداد الكامل ، وأنا اردد نعم سيدي ..حاضر سيدي ..صار سيدي ، لكنه طلب مني حبوب الإسهال بصفتي مسئول المفرزة الطبية في الفوج ، لأنه منقولا حديثا في وحدتنا ولم يشهد معارك كبيرة في السابق ، وليس لديه خبرة في قيادة المعارك ، فقد أصيب بالإسهال ، وتلك حالة معروفة ، ومشخصة ، في الجبهة ..
ذهبت إلى الموضع ، وفتشت بين عدة الإسعافات على حبوب الإسهال .. ، ويا للمصيبة.... لم أجدها..! ، لأنني كنت قد نسيتها في الموقع الخلفي ... !!
ماذا عساي أن أفعل يا ترى أمام جبروت وغضب السيد الآمر ؟ ولكني وجدت بعض من حبوب الفاليوم رقم 2 وهي شبيهة بحبوب الإسهال فوضعتها في كيس صغير وذهبت بها إلى السيد الآمر ، وكان مازال يزعق ويزبد كالطبل الفارغ بحضور أمراء السرايا .. ورئيس عرفاء الوحدة... ، تناول الكيس ، وفتحه ، وابتلع أربع حبات منه دفعة واحدة مع قدح ماء ، وأومأ لي بطارف سبابته بالانصراف... ، أديت التحية ، وعدت مرتبكا إلى موضعي .. تتقاذفني الهواجس والأفكار ، فأنا لست خائفا من الهجوم المرتقب بقدر ما كنت خائف من افتضاح أمر حبوب الفاليوم التي قدمتها بدلا من حبوب الإسهال... ! وبعد دقائق قليلة سمعنا دويّ انفجارات عنيفة في ارض العدو .. ، حيث دكت قوتنا الصاروخية تلك الحشود المتجمعة بصواريخ ارض ارض وحولتهم إلى شتات وهباء في أرضهم ، قبل الشروع بالهجوم علينا ، فتكبدوا خسائر كبيرة بالارواح والمعدات .. ، في صباح اليوم التالي وفي الساعة العاشرة صباحا ، كانت جًًُهام الشؤم قد انقشعت ، ولاحت الشمس من وراء نتف الغيوم الهاربة المندحرة والسماء زرقاء صافية ، فسمعت صوت مراسل الآمر مناديا يدعوني للمثول أمام سيادته ، وبالسرعة الممكنة !!، فراودتني الهواجس والقلق والخشية مرة أخرى .. ، وقلت في نفسي (جاءك المـــــوت يا تارك الصـــــلاة ) ، ولكني عندما دخلت ملجأ السيد آمر الفوج ، وجدته باشا ضاحكا مرتاحا ، وهو يتكلم مع آمر الفوج الثاني بجهاز الهاتف ، ولما انتهى من كلامه ، نظر إلي ، وناولني ظرف مختوم ، وقال (اذهب مع عجلة الأرزاق إلى وحدة الميدان وأحضر لنا ضماد الميدان ووزع لكل مقاتل قطعة ).. ثم أردف بعد صمت قليل .. و قال (أشكرك على الحبوب. . لقد أ فادتني كثيرا وأنقذتني من الإسهال)...! تناولت منه الظرف وأديت التحية العسكرية ، واستدرت إلى الوراء ، خرجت من عند الآمر.. وأنا مدرك ومتيقن جدا من انه كان فعلا بحاجة إلى حبوب الفاليوم وليس حبوب الإسهال....
شرق البصرة 1987
الواجب الطارئ
كانا قد اتفقا من حيث المبدأ .. وبقي عليهما التنفيذ .. عندما جثا المساء على بيوت المدينة ، وقد خلا الجو لهما ، وصَفا ، ليمارسا الحُب .. ، كانت قد خرجت لتوّها من الحمام .. وكحّلت عينيها ، وعطرّت جسدها البض بأطيب عطورها وصبغت شفتيها بالأحمر القاني ، ومسحت وجنتيها بنفحة من الوردي المعطر ، ثم اتشحت بثوبها الأحمر، الحريري الشفاف كالزجاج ، حتى أصبحت آية من الحسن والجمال .. لا بل حورية من حوريات البحر .. وكان هو يومئذ ، قد عاد للمنزل مبكرا ، واغتسل جيدا .. ، وبعد تناول وجبة عشاء ٍ دسم ، واحتساء قدح ٍمن الشاي .. ، ثم بعد استراحة قصيرة ، باغتته بعطرها الفواح الذي ملأ الغرفة ، وبجمالها الأخاذ .. ، نهض من كرسيه الوثير ، وجحظت عيناه ، وبدأ يتلمس جسدها ، منبهرا بروعتها وجمالها الفتان ، وكأنه يراها لأول مرة ..، كيف لا ، وهو الذي أمضى الليالي الطوال من سني عمره في الواجبات والخفارات الليلية بعيدا عن زوجته الشابة الجميلة ، خدمة ًللوطن ...! وحين ضمها إلى صدره ، طبع بعض القبلات على وجنتيها وعنقها الرخامي ، منتشيا ، وهو يستنشق رحيقها العطر... ، ولما أراد أن يلثم شفتيها المكتنزتين بقبلة الحياة ...، رنّ جرس الهاتف فجأة !! تحرّك مبتعدا عنها ، وهو يضرب كفا بكف ، وبقدميه ارض الغرفة بقوة ، ورفع السماعة منزعجا .. متوعدا المتصل ، وردّ بصوتٍ عال.ٍ. الو .. الو من المتصل .. من أنت ؟ .. ثم رقت نبرات صوته . . ، حين عرف إن المتصل هو مسئول بارز .. أهلا سيدي .. أهلا أستاذ .. أهلا تفضل أستــــاذ ؟!.... ثم تكلم الأستاذ الكبير ...( اسمع هذا التبليغ .... عليك الحضور فورا إلى المقر ، وان تأخذ معك عشرة من المقاتلين الجيّدين مع كامل أسلحتهم وعتادهم ، وتتوجّه بسرعة إلى النقطة ( ب ) في المواضع الأمامية خارج المدينة ، وان تمارس الخطة الأمنية الليلية بدقة ، لأن المسؤول الأعلى في طريقه إلى هناك ليرى الخنادق والاستحضارات المعدّة لصد الإنزال الجوي الأمريكي ..مفهوم..؟) ... مفهوم .. أستاذ ...
انتهى البلاغ ... خرج المقاتل المتفاني مع قوته القتالية ، ونفذوا ما مطلوب منهم ، وهم يرتعدون من البرد داخل المواضع الترابية الرطبة البعيدة في العراء .. وهم يحتضنون البنادق المتجمدة تحت جنح الظلام .. لكن المسؤول الكبير لم... ولن يأت أبدا ...!
وظلت هي تنتظر عودته بكامل حلتّها حتى الصباح ...
قلب من حجر
دعوني لمعالجته إلى بيته .. كان وحيدا ممددا على أريكة خشبية قديمة ، تتوسط الغرفة القذرة ..، وهو متدثرا بعدد من الأغطية الصوفية القميئة المتسخة .. كان يصيح ويئن من آلام حادة مبّرحة ، وألم في صدره نتيجة إصابته بالذبحة الصدرية ... لا أحد يعيش معه في هذه الغرفة المهملة غير قطته الحمراء المخططة ، وهي تسرح وتمرح بين الأسلاب والثياب الرثة الممزقة المرمية على ارض الغرفة الرطبة .. الدبقة ....
عندما رآني مقبلا عليه بصحبة ولده ، بدأ يتفوه ويتمتم بكلام مبهم أشبه بالهذيان ، لم أفهم منه شيئا ..، إلا إن ولده كان يفهم ما يريد ويخبرني ..... انه كهل تخطى الثمانين من عمره .. ، شاحب الوجه ضئيل الجسم ، داكن الوجه غائر العينين ، وذقنه زاغب ، يداه وأصابعه المتيبستان ، قذرتان ملطختان ببقايا الطعام وربما بالبراز أيضا .. كان يحاول صدي ، ومنعي من وضع الكانيولا في يده ... كانت رائحته نتنه ، رائحة البول تنبعث من جسمه ومن ملابسه الرثة ، إلا انه هدأ قليلا عندما وبّخه ولده بصوت عال ، فصمت عن الهذيان ...
هو الوحيد الذي بقي على قيد الحياة بعد رحيل زوجته من سنوات عدة ، ومن ثم رحيل أ قرانه الذين عاصروه في القرية إلى الحياة الأخرى . وظل هو يعيش منقطعا عن العالم الخارجي ، لا يعرف شيئا عن الدنيا ، ولا يزوره أحد من أقاربه ولا يأكل إلا ما يقدم له من وجبات الطعام الرديء ، فيتناوله وتشاركه الطعام قطته الحمراء المدللة ، فهي تشاركه في كل شيء .. الطعام والألم والإحساس والسرير أيضا ، وهي تموء لموائه وتئن لأنينه ، وغالبا ما تجدها متدثرة معه تحت بطانيته ، تستمد الدفء باطمئنان وهدوء في هذا الشتاء القارص ...
لست أدري لماذا .. ألهذا يتمنون لنا طول العمر حين نقدم خدمة للناس فيقولون لنا ( الله يطول عمرك ).. ؟ ، ألكي نعيش هكذا في أرذل العمر ، مثل هذا الرجل الذي يكابد المرض والوحدة والإهمال وسوء المعاملة ، فيما أولاده الأربعة منشغلون عنه في أمور الدنيا وملذاتها متدثرين بين ثنايا أجساد نسائهم البيضاوات الناعسات ، يتدفئون بدفئهن في الليالي الباردة ، الأفضل له لو كان قد غادر الدنيا مع أقرانه على أن يصل به الحال إلى هذا المآل ، وهو الذي كان فيما مضى من الأيام الخوالي فلاحا مكافحا مقداما هُماما لا يكل من عمل ولا يكف عن الحركة الدؤوب ، بل كان كل ما يحتاجه و يتمناه يدركه ، يزرع الأرض ويجني غلتها عاما بعد عام ، لا بل هو الذي شيد هذه الدار التي يسكنها الآن مع احد أبنائه قبل أكثر من خمسين عاما ..، إلا أن كل ما يملكه قد ورثه عنه أولاده من دون عناء ، بل هم أيضا تطوروا مع تطور الحياة وانشغلوا في أعمال أخرى غير الزراعة ، فمنهم من صار معلما وآخر موظفا حكوميا وأخر صاحب متجر ، أما بناته فقد تزوجن والتحقن بأزواجهن ولم يعاودن زيارته منذ أمد بعيد ، بعد أن تقاسم الأبناء كل شيء وهو ما زال على قيد الحياة ، بل حتى هذه الغرفة القذرة والأريكة القديمة والأسمال التي تحته أصبحت من نصيب أحد أبنائه وسوف يسلمّها حال تسليم الروح .. ! وها هو غريبا وحيدا ينتظر رحمه الله في هذا العالم القاسي .....
عاوَدته بضعة أيام لمعالجته وبدأت صحته تتحسن شيئا فشيئا ، وكفّ عن الهذيان وانقطعت أخباره عني بعدها .. وانشغلت في تدبير أمور حياتي ومشاغلي الكثيرة .. فهو كهل طاعن السن لا يفقه من الدنيا شيئا الآن ، ولا يمكنني تقديم له أفضل من ذلك ، وعلى أولاده أن يعتنوا به .. ، ولكني كنت ألحظ جفاءً وسوء المعاملة من أولاده تجاهه كونه أصبح عبئا ثقيلا عليهم ويشغلهم عن حياتهم الخاصة بل يتمنون موته في اقرب وقت ليتملصوا من مسؤولية رعايته وتكاليف علاجه ..، ولم تجد نفعا نصائحي وإرشاداتي عندما كنت أنصح بضرورة تقدير منزلة الأب واحترامه كونه هو الذي شقي وتعب فيما مضى من اجلهم طوال السنين ...
ومرت الأيام وبضع شهور ولم يستدعوني لمعالجته ولم يحدثني احد من أبنائه عنه حتى عندما أصادفهم في الطريق ، وكان البلد يمر بظروف قاسية وأزمات كثيرة ، إذ كان هذا الشتاء قاسيا ثقيلا علينا بسبب شحة الوقود واستمرار انقطاع الكهرباء وعدم توفر الأمان وابسط شروط الحياة في هذه السنوات العجاف ، بل كان البلد مدمرا محطما ، حتى انه لا يستطيع المرء الانتقال من مدينة إلى أخرى أو من القرية إلى المدينة القريبة للتطبب في مستشفياتها بسبب الأوضاع الأمنية المتردية ، فكان الناس يموتون بكثرة بسبب تلك الظروف والإهمال ولا يمر أسبوع دون أن يقام مجلس عزاء في القرية ..، وأحيانا مجلسين في آن واحد، لا بل ثلاثة ، فالموت دائما حاضر، وتعددت الأسباب والموت واحد ....
وذات يوم فوجئت بخبر وفاته ، إذ كان قد مرض واشتد به المرض ولم يبادر احد من أولاده باستدعاء الطبيب والإنفاق عليه ومعالجته ، فتوفي الرجل وانتقل إلى جوار ربه ، فارتاح وأراح من هذه الدنيا التي أهانته كثيرا وأخذت منه أكثر من ما أعطته .
ذهبت إلى مجلس عزاءه ، جلست وكنت أراقب الوجوه عن كثب ، فلاحظت أثار وملامح الندم مرتسمة على وجوه أولاده الأربعة .. كانوا ساهون سارحون في حزن وصمت عميقين ، بعد أن عاودتهم صحوة الضمير ، كونهم لم يهتموا كما ينبغي بوالدهم الذي قام بتربيتهم ، وشقي وكد من أجلهم ، وترك لهم كل شيء ، وغادر الدنيا عاريا هكذا ذليلا منبوذا ، ولم يلقى منهم غير العقوق والجفاء ...
مكثت في مجلس العزاء لبعض الوقت ، ثم هممت بالانصراف وحين كنت أصافح احد أولاده لأقدم له العزاء أجهش بالبكاء أمام الجلاس من المعزين محاولا إفهامي بأنه عمل كل ما بوسعه لأجل والده ، وتبرئة نفسه من الذنب والمسؤولية ..، فواسيته بحنو ، وغادرت المكان ، وأنا أقول في نفســـــي ( قلبي على ولدي وقلب ولدي على الحجارة ) ....
فبراير 2007
حلـــم بعيـــد المنــال
كان فقيراً معدماً من عائلة كادحة ، يعيش مع أفراد أسرته الكبيرة في بيت متواضع قديم .. كانت جميلة مدللة ومغرورة من عائلة صغيرة ميسورة الحال ، تسكن منزلا كبيرا وحديثا ، وهما معاً على مقاعد الدراسة في مدرسة مختلطة منذ سنوات ... لقد كان يهمه أمرها ووجودها كثيراً ، يحبها بصدق ويتابعها بنظراته العميقة التي تشوبها مسحة من الحزن والتمني .. ، وفي المقابل كانت تبادله نظرات الرضا والعطف والشفقة أحيانا ، والإطمئنان كونها تسأله العون والمساعدة بحكم العلاقة التي تربط أسرتيهما أحياناً أخرى ، وكثيراً ما كان يهب مسرعاً متفانياً لتقديم المستحيل لها ، ولو على حساب جهده وراحته ، كان يتفاخر أمام أقرانه التلاميذ المعجبين بروعتها وجمالها ، ومن كونه الوحيد الذي ينال اهتمام ورضا التلميذة الجميلة الأنيقة المدللة ... مرت سنوات عدة ، وأنتقل الاثنان إلى مرحلة دراسية متقدمة وكان كلما يكبر ، يكبر حلمه معه ، ولا زال يتمناها ، بل ويغار عليها حتى من نسمة هواء عليلة ... وفي ليلة حلم وردية زفوها له !.. كان سعيداً لدرجة لا يمكن وصفها ، أو تخيلها ، متيماً بها ، دخل معها عش الزوجية الساحر ألذي طالما تمناه .. بدأ يخلع عنها إكليلها ومن ثم ثياب عرسها الفاخرة برفق وتأني ، أخذ يقبل أناملها الرقيقة المطلية بدقة بالغة ويقبل كفيها ويضمها بحنان إلى صدره ويتنهد بشوق ولهفة عارمة ، حتى إذا ما إنتهى من تجريدها من كامل ثيابها ، وغدت مثل حورية من حوريات البحر ، حملها بكلتا يديه لكي يضعها على سرير لويس السادس عشر الملكي ليمارس معها الحب ، وما هي إلاً قبلتين منه على شفتيها الباروديتين وعلى عنقها الناصع البياض ، حتى دبّـت في الغرفة خربشة الجرذان العابثة بأواني الطبخ المتسخة ببقايا طعام العشاء !! ، فاستيقظ مذعوراً من نومه وتبدد حلمه ، ليجد نفسه قميئاً متكوراً متدثراً ببطانيةٍ متسخة ، غير واضحة المعالم والألوان لقدمها .. فصاح وهو ما زال في نشوة الحلم .. الله ..الله .. ما أجمل هذا الحلم الذي رأيته ..؟! ثم بدأ يشتم ويلعن الجرذان الوقحة التي بددت عليه حلمه السعيد .. وفي الصباح الباكر كان في إنتظارها ، وكالمعتاد على طريق المدرسة ، وحين إقتربت منه إنبرى لها مستجمعاً كل جرأته وشجاعته ليفاتحها بموضوع حبه ولوعته ، وما يضمره لها من شوق منذ سنوات ، وبدأ يقص عليها الحلم الذي رآه تلك الليلة ، وهي مندهشة من كلامه الغريب وغير المتوقع ، فصاحت بوجهه مستنكرة حديثه ، ناعتة إياه بالمجنون ، نافرة عنه مبتعدة بخطوات سريعة ، في حين ظل هو واقفاً في مكانه وسط الطريق مصعوقاً من ردة فعلها وجفاءها ، حينها إنحدرت من عينيه دمعتين حارقتين ، نزلت على خديه ، بعد أن مات الحب في قلبه وتبددت آماله ، ولم يبق من حلمه غير نظرات وعبرات ....
الترمز ..!
البصرة.. معركة الحصاد الأكبر
انتهت اليوم إجازتي الدورية ..... عندما حل المساء توجهت إلى محطة ( باب البيض ) في الموصل ، حيث كراج بغداد كي استقل حافلة نقل ، لألتحق إلى وحدي العسكرية في قاطع شرق البصرة ..
وفي الكراج ..، تفاجئت ، حين لم أجد واسطة تقلني .. ، بل رأيت المئات من الجنود يتراكضون لاهثين ، كي يحضوا بما يقلهم إلى بغداد أو البصرة ...، فأصبت بخيبة أملٍ كبيرة ... ، إذ انه كان لزاما علي أن أكون في وحدتي العسكرية قبل الثامنة صباحا .... وكان السيد أمر الوحدة ، قد لمّح لي أن اجلب له عند عودتي ، كيلو غراما واحدا من الجرزات الموصلية الفاخرة ، مقابل منحي يوما واحدا مساعدة على إجازتي الدورية .. ، ويوم المساعدة هذا هو حقٌ مشروع يُمنح للمقاتلين الذين هم من سكنه المحافظات البعيدة ...، ولكني تجاهلتُ الأمر .. أولا بسبب ضعف حالتي المادية .. وثانيا عدم قناعي بمثل هكذا طلب...، أي إعطاء رشوة لأيّ من الضباط ، فكيف أذن ، والحال هكذا ، أن أتأخر عن الالتحاق خلافا للموعد المقرر ، ومن دون جرزات ....؟! لا بد أن في الأمر مشكلة .... !
في هذه الأثناء دَخَلَت المرآب حافلة نوع ريم حمراء ، فتراكض الجنود خلفها وتزاحموا حولها .. وانحشروا في داخلها حشراً ..، مع حجز المقاعد الأولى للضباط طبعا ...، ولكني كنت مُثقلا بحقيبتي الثقيلة ، ولم يتسنى لي آن احجز مكانا ، ولكن ، وبصعوبة كبيرة ، حشرت نفسي مع الجنود الواقفين في وسط الحافلة وحظيت بمكان لا يتجاوز الثلاثين سنتمترا وقوفا في مؤخرة الحافلة ....، والتي ستنطلق مباشرة إلى مدينة البصرة ، وبذلك أمضيتُ أكثر من إحدى عشر ساعة من ساعات الليل ، واقفا على قدمي ، مترنحا ، حتى نزل بعض الجنود في الطريق على أطراف المدينة ، فتمكنت من الجلوس على أرضية الحافلة ... !
وصلت ساحة سعد الشهيرة في البصرة ، وثم استقليت راكبا في عجلة اللاندكروزر إلى وحدتي و م ط \5 في منطقة الجباسي خلف شط العرب باتجاه الجبهة ... فوصلت الوحدة العسكرية عند الساعة الثامنة والربع .. الحمد لله ... لم أتأخر كثيرا عن الموعد ... ، اجتزت باب النظام وهرعت مسرعا إلى ملجأي ( مقـر المفرزة الطبية ) حيث كانت وجبة المجازين قد التحقت صباح أمس ، وهم الآن في ساحة التدريب ، وبينما كنت منشغلا بتهيئة يطغي ( سريري) وتغيير بذلة النزول العسكرية ببذلة العراضات ..، ومن ثم تسليم ورقة الأجازة الاعتيادية إلى قلم الوحدة ..، دخل علي مراسل الآمر ، يسألني عن الجرزات ... ! إذ أن السيد الآمر قد لمحني مع حقيبتي من خلال شباك غرفته ، وأنا ادخل باب النظام ... وهو الآن يطلب الجرزات التي وعدته بها .. وربما السجق والحلويات الموصلية .. فمن يدري ..؟ ! ولكني صعقت للأمر .. ولم أستطع تقديم عذرا معقولا .. ، لأنني توقعت الموضوع مجرد مزحة .. ولكونني منقولا حديثا إلى هذه الوحدة العسكرية ، ولم أتعود تقديم هدايا للضباط أو تكوين علاقات مع أحد منهم .. كما إنني لست بالجندي الاعتيادي .. بل جندي خرّيج طبابة عسكرية ، ولي شخصيتي المستقلة .. ومسئول المفرزة الطبية ...، لكن السيد الآمر يعتبرني أسوة ببقية الجنود ....، فلا بأس ليعتبرني ما يشاء .. ولكن أن يطلب مني الرشوة ..؟! فذلك خط أحمر ... ذهب مراسل الآمر بخفي حنين ..، ونسيتُ بل تناسيتُ الموضوع .. وبدأت بمزاولة عملي المعتاد والتهيؤ للمكوث في الوحدة لمدة ثماني وعشرون يوما .. ، ولم يُرسل الآمر في طلبي ...، لكنه كان يدبر لي أمرا بليل .. !
عاودتُ مزاولة عملي في المفرزة الطبية بكتابة وتخطيط عيادات الجنود المرضى الذين سيأتون للمفرزة وتهيئة لِستة بالأدوية التي احتاجها ، لجلبها من المذخر .. ثم فتشت مطبخ الضباط والمراتب وتأكدت من سلامة الأرزاق ووجود مياه الشرب ، ثم ذهبت إلى مستودع الأسلحة واستلمت بندقيتي ..، حتى كانت الساعة الحادية عشرة ، حيث ظهرت طلائع الجنود المنسحبين من ساحة العرضات إلى داخل مقر الوحدة ... ، ثم تمّ توزيع الأرزاق ، بعض حساء العدس ، مع صمون الجيش القاسي ، ثم التقيت بزملائي من جنود المفرزة الطبية ، إلاّ مساعدي الذي كان قد غادر مساء أمس بأجازته الدورية ... قسّمت الواجبات الليلية على ورقة وأرسلت نسخة منها إلى قلم الوحدة ... إلى أن حان وقت (القصعة ) ، فتناولنا ما تيسر من الرز مع مرقه هواء الشهيرة .. ، وما إن ارتميت على السرير لأريح جسدي المنهك طوال الليل في الطريق ، حتى أذيعت أوامر القسم الأول بالمايكروفون وبصوت ر.ع محمد ، الجهوري القوّي .. ، ولما كانت السماعة الكبيرة والوحيدة متجهة في اتجاه مقر المفرزة الطبية .. كما أن الهواء كان يهب في اتجاهنا ، حاملا ذلك الصوت الجهوري القوي .. ، فكان أول ما أذيع من خبر هو أسماء المقاتلين من الذين تم تنسيبهم استخدام إلى لواء المشاة 418 ولمدة شهرين متتاليين ..!! وكان اسمي أول هذه الأسماء !! ... ن ع خ مكلف طبابة عسكرية (ج ف ز )، ينسب إلى الفوج الأول .. ن ع مطوع ( س م س) .... وهكذا خمسة مقاتلين إلى سرايا الفوج الخمسة بضمنهم سرية المقر طبعا .. لكني لم آبه للأمر رغم عدم وجود مساعدي ولم أعارض الأمر العسكري ، بل كنت أحبذ المجازفة وخوض غمار الحرب عن كثب ، على أن أكون جنديا خاملا خارج المعركة الحقيقية ، ورغم كوني منهكا جدا ، هيأت حالي ورزمت يطغي مرة أخرى وملأت زمزميتي بالماء ونظفت بندقيتي وربطت جعبة الرصاص على صدري .. وفي هذه الأثناء كانت الساعة قد قاربت الثانية ظهرا ، حضرت سيارة الايفا أمام المفرزة الطبية بصحبة السائق مع ملازم ثان ، لتقلنا إلى اللواء الذي تم تنسيبنا إليه في عمق الشرق المحاذي لإيران خلف بحيرة الأسماك العتيدة ..... رمينا يطغاتنا على ظهر عجلة الايفا ، ثم قفزنا مع ما بحوزتنا من أسلحة وعتاد وطعام ، وانطلقت بنا العجلة ، وثمة مسحة من الحزن والحيرة تفترش وجوهنا الكالحة .. بينما كانت العجلة تهدر وتسرع بنا ، كنا نسمع هدير المدافع الثقيلة وتساقط القذائف وانفجارها هنا وهناك ومن بعيد وقريب ... ولما قاربت الساعة الرابعة عصرا ، وصلنا مقر الفوج الأول وتوقفت العجلة أمام ملجأ آمر الفوج .. وهو ملجأ محفور داخل الأرض ومغطى بالتراب والارامكو ( صفيح مضلع) ، ضمن ساتر ترابي .... ، وبلمح البصر سلم الملازم الثاني كتاب تنسيبنا ، ثم استقل العجلة واقفل عائدا مع السائق إلى وحدتنا في المقرات الخلفية و م ط 5 فق 8 .. استقبلنا آمر الفوج الأول ببرود وعدم اكتراث ، ثم استدعى رئيس عرفاء الوحدة ، وأمر أن يقسمنا على سرايا الفوج الخمسة بما فيها سرية المقر التي تم تتسيبي إليها .. ودلـّـني إلى ملجأ قريب محفور تحت الأرض ، قريبا من ملجأه المحصن ، لكوني أنا الوحيد من بين الخمسة المنسبين كنت نائب عريف خريج طبابة عسكرية ..
كان آمر الفوج عائدا تواً من اجتماع الآمرين في قيادة الفيلق ..، وبما أن هذا اللواء الذي تم تتسيبي إليه قد تجحفل في موقع متقدم من الأراضي الإيرانية – العراقية .. أي في ارض مشتركة متنازع عليها تسمى (اللسان ) ، حيث تدور معارك طاحنة كل يوم بين قواتنا والقوات الإيرانية للاستحواذ عليها والسيطرة على ارض المعركة ، لذلك فان خطة مدروسة قد وضعت لاستدراج العدو الإيراني المحتشد في الجانب الأخر ، وقد سُلّمت نسخة من الخطة الجهنمية والمهمة جدا بيد آمر الفوج الأول الذي نحن في ضيافته ، مع خريطة مهمة عن تفاصيل ارض المعركة .. ، لذا كانت من الأهمية ، بحيث يعتمد عليها مصيرنا ومصير المئات من الضباط والجنود المرابطين في ذلك القاطع من جبهة القتال ، بل مستقبل الجيش والبلد أمام الرأي العام العالمي وعلى أعلى مستوى من القيادة .. ، إلا أن السيد آمر الفوج كان يبدو قلقا جدا ..، يتحرك جيئة وذهابا .. هنا وهناك ، ويتفقد أحوال ومعنويات الجنود وأمراء السرايا وهم رابضون في مواضعهم القتالية ، وكان بصحبته (ترمز) ماء من البلاستك أينما حل وجال ، رغم إن الجو لم يكن ساخنا جدا ، كي يستوجب تكرار شرب الماء... !!
كان المساء يزداد حلكة ًوجنونا ً. . أصوات الانفجارات على طول خط الجبهة لا تهدا ويزداد الصوت وضوحا كلما دخلنا في الليل ، عاد السيد آمر الفوج من تفقد ثكنات الفوج ... السرايا والمقاتلين واطمئن من وصول قصعة العشاء لآخر جندي في آخر موضع قتالي ، لكن الجو كان مشحونا بالخطر ، كوننا منطقة حجابات وفي تماس مع القوات الإيرانية التي لا تنفك عن مباغتتنا أثناء الليل من اجل الحصول على موطئ قدم في الأرض التي في حوزتنا .. بدأ القصف المدفعي يزداد ضراوة وأزيز الرصاص يتطاير ، ومشاعل التنوير تُطلق في السماء ، فتكشف كل ما موجود على الأرض ، وتحيل ظلام الليل إلى نهار .. كانت عقارب الساعة قد اقتربت من الثانية عشرة ليلا .. حينما كان جسدي منهكا جدا ، كوني لم أذق طعم النوم ليلة البارحة وأنا في طريقي من الموصل إلى البصرة ، واقفا على قدمي داخل الحافلة ، حتى هذه اللحظة ، إذ قضيت النهار كله يقظا ، فلن أقوى على عمل شيء سوى الاستسلام للنوم داخل ملجآي محتضنا بندقيتي ، ثم غفوت إغفاءة عميقة في ظلام الملجأ غير آبه لما يدور في الخارج من هول ، لأن الوضع أصبح مألوفا في جبهة القتال ، معتقدا إنها مجرّد مناوشات يومية وجس النبض أو قرقعة سلاح لا أكثر .. لكن الأمر تطور وتمادى وخرج عن السيطرة .. ، إذ أن القوة الإيرانية المهاجمة كانت اكبر مما هو متوقع ، وحسب المعلومات الاستخبارية الواردة لمقر قيادة اللواء والفوج الأول ، كانت قوة تزحف ببطء ، لتحتل مواقعنا المحصنة ، والإيرانيون يتميزون بطبيعة مستميتة إثناء الهجوم .. فهم يهجمون بأعداد هائلة ، غير آبهين لحقول الالغام والنيران التي تطلق نحوهم ، كونهم ذاهبون إلى مدينة كربلاء المقدسة ، والتي تقع حسب اعتقادهم خلف هذه السواتر الترابية ! .. وهذا أهم شيء عندهم في هذه الحرب ، أن يموتوا شهداء في طريق كربلاء ... !!
في هذه الأثناء أحسستُ بان يداً تهزني بقوة ، إذ كان السائق المدعو (عطيّش) وهو من أهالي الناصرية ، يصيح بأعلى صوته .. انهض .. انهض أيها الجندي الخامل ، الإيرانيون دخلوا علينا ، نهضت على الفور مذعورا وتركت كل شيء ورائي داخل الموضع ، إلاّ بندقيتي وجعبة الرصاص ، وأنا خارج من الموضع ، كان آخر ما تبقى من الجنود ينسحبون تحت جنح الظلام ، ويتركون مواضعهم هم وأمراء الفصائل ، وفق انسحاب مضطرب ، نظرت إلى ملجأ السيد آمر الفوج ، كان خاليا مهجورا معتما ، فأدركت بأن الوضع خطير ، أخذت أهرول خلف السائق عطيش وهو يدلني إلى الطريق حيث المقر البديل لفوجنا في منطقة المثابة .. ، بعد وصولي مع آخر ما تبقى من الجنود أجرى رئيس عرفاء الوحدة التعداد للتأكد من انسحاب آخر جندي من ارض المعركة ، لكني انتبهت للسيد آمر الفوج الرائد (محمد) ، كان قلقا جدا غاضبا يصيح ويزعق في وجه الضباط والجنود ويضرب كفا بكف ، كونه نسي الترمز الذي كان يرافقه أينما حل وذهب ، فتعجبتُ من تفاهة الأمر، وارتسمت على شفتيّ ابتسامةٌ ساخرة ، لم يلحظها احد وسط الظلام الدامس .. ، لكن السيد آمر الفوج لم يكف عن الزعيق والصراخ موجها كلامه إلى مساعده النقيب جعفر وآمر سرية المقر ، متهما إياهما بالإهمال والتقصير .. إذ كان مُصرا على إعادة ذلك الترمز الغريب بأي ثمن كان ..، فلم يتطوع أحدا من الجنود بالمجازفة والرجوع إلى المقر القديم لإحضاره ..!!، ومن دون شعور منّي تقدمت وأديت التحية للسيد الآمر أمام حيرة ودهشة الضباط والجنود ..، وسألته سيدي أين استطيع أن أجد الترمز ..؟ هل أستطيع إحضاره لك ..؟! ، فصمت الآمر واتسعت حدقتاه ، وهو يتفحصني وسط الظلام ، ثم قال أليس أنت الجندي الاستخدام الذي جاء اليوم ..؟! قلت نعم سيدي ... خيّم صمتٌ رهيب على الجمع الواقف .. ثم صاح الآمر بسرعة ، انه موجود تحت سريري داخل الملجأ .. أحقا تستطيع إحضاره .. أعطيك إجازة سبعة أيام ... عشرة ... كم تريد .. فقط احضر ذلك الترمز اللعين ..
بما إن ملجأي الذي أودعوني فيه عصر اليوم ، كان قريباً من ملجأ الآمر المحصن ، لذلك استطيع بسهولة تمييز مكانه ، ومن أجل إنهاء المشكلة ، تطوعت أن أجازف بحياتي ، فتقدمت لهذه المهمة الجنونية ، إضافة إلى حاجتي الماسة للأجازة من اجل العودة إلى دياري وأتقدم لخطبة من أحبها .. ، فها أن الشوق بدأ يهدني منذ اليوم الأول لفراقها .....، لذا ازداد إصراري ولهفتي لإحضار ذلك الترمز مهما كلف الأمر ..
قال لي الآمر خذ معك ما تريد من العتاد والرمانات الدفاعية والهجومية .. وسأتدبر خمسة من أشجع الجنود لحمايتك وإسناد ظهرك ...، المهم أن تأتيني بالترمز ... ولك ما تريد ....، ثم أمر مساعده باستدعاء خمسة من الجنود من السرية الأولى ، ورافقوني مكرهين ، وعلى مضضٍ ، متذمرين من سذاجتي وبلاهة عقلي ، وهم يشتمون ويلعنون حظهم العاثر ....، وانطلقنا تحت جنح الظلام .. ، بعد أن تزود كلٌ منا ببندقية مع مائتان وأربعون أطلاقة ، ورمانتين دفاعيتين وهجوميتين .. كنا نتقدم بحذر شديد نحو الأرض التي انسحبنا منها ، متوخين حقول الألغام ومشاعل العثرة ... وما هي إلا أقل من نصف ساعة ، حتى بان ملجأ الآمر تحت ضوء القمر الخافت ، فتركني الجنود الخمسة على مسافة مائة وخمسون مترا ، متخذين مواقعهم للمراقبة والدفاع في حذرٍ وتوجس .. ثم بدأت ازحف على بطني ببطيء حتى ملجأ السيد الآمر حذراً، متفحصا ًالمكان رويدا رويدا .. لما وصلت باب الملجأ لم يكن هناك جنود إيرانيون بداخله ... بل كان باب الدخول إليه محطما بواسطة قذيفة آر بي جي 7 خاصة بالتحصينات ، وكان معتما من الداخل ، مهجورا ... فقلت لنفسي ( الحمد لله .. لا يوجد احد هنا ) ثم ولجت إلى الداخل في وسط الظلام الدامس وتحت الأنقاض المحطمة والغبار والدخان وبدأت ابحث متحسسا بيدي اليمنى بحذر شديد ، وانأ أشعل أعواد الثقاب ، الواحد تلو الآخر .. وما هي إلا لحظات حتى لمست يدي جسما بلاستيكيا أملسا ...! فسحبته بسرعة ، كان خفيفا خال من الماء ، فتعجبت من خفته وتشبث الآمر به واهتمامه ، لكنه كان مقفلا بإحكام بواسطة شريط لاصق ، فهممت بالخروج من الملجأ ، متفحصا الأجواء ، فلم أجد أحدا ، إلا بعض الأصوات واللغط لم افهم منها شيئا ..واصوات أطلاقات من سلاح خفيف في الجوار ، أنهم الجنود الإيرانيون يحتفلون بالنصر خلف هذا الساتر الترابي ... كان دوي المدافع وأزيز الرصاص قد هدأ قليلا ، عندما كانت الساعة تقارب الرابعة فجرا ...، قفلت زاحفا بصعوبة بالغة بصحبة الترمز مع البندقية والعتاد ، وكانت الثواني تمر علي كأنها ساعات طويلة حتى اقطع هذه المائة وخمسون مترا المتبقية ، لأوافي رفاقي المقاتلين الذين ينتظرونني خلف الكثبان الترابية المتشعبة .. حتى أصبحت قريبا منهم فعرفوني ، وهم يهمسون بصوت رهيف .. أبقى منبطحا على الأرض لا تنهض لئلا يرصدونك ... حتى اجتزت التلة الترابية ، فنهضت واقفا على قدمي .. وبدأت أهرول ببطء متوسطا الجنود الخمسة الذين كلفوا بحمايتي إلى منطقة المثابة حيث يتجحفل فوجنا ... ووسط ذلك الصمت والظلام والسكون الرهيب ، صرخ بنا صوت مدوي شل أوصالنا ، صائحا بنا ( قـــــــــــــــــف )... سر الليل... وعلى الفور أدرك احد الجنود الخمسة من انه صوت رئيس عرفاء السرية ( سامي جلوب ) ، فرد عليه نحن جماعة الترمز.. جماعة الترمز .. نحن الفوج الأول .. إذ أن الآمر كان قد أرسل قوة قتالية أخرى في أثرنا لحمايتنا ، ولكي يدلونا على الطريق ، فصاح هل أحضرتم الترمز .. ؟ أجبته نعم ..ريس نعم .. أحضرنا الترمز .. وفي هذه الأثناء اشتعلت الأرض التي خلفنا ، بنيران المدافع والهاونات وراجمات الصواريخ .. فتحولت إلى جحيم .. هرولنا جميعا حتى المقر البديل لفوجنا ، حيث كان الآمر والضباط في انتظارنا على أحر من الجمر ، فتقدم الآمر نحوي مسرعا وانتشل الترمز من يدي بقوة وفتحه .. ومد يده في داخله واخرج منه ورقة كارتونية ...، وتنفس الصعداء وهو يردد الحمد لله .. الحمد لله ..
الخطة موجودة في الترمز ... اندهشت للأمر وأنا أشاهد تلك الورقة من الكارتون .. على نور ضياء الفجر الأول .. ثم علمت بان الترمز كان بداخله الخطة الحربية المرسومة للقطاعات في اجتماع الفيلق ،مع خارطة لجميع المواقع المهمة .. حيث تقوم الخطة على انسحاب قواتنا لاستدراج قوات العدو وثم دكها بالصواريخ وقنا بر المدفعية الثقيلة ، لتكبيد العدو اكبر عدد من الخسائر بالأرواح والمعدات .. لكن السيد آمر الفوج كان قد أخفى الخطة الحربية في داخل ذلك الترمز .. ونسي الترمز في الملجأ عندما شاهد بالناظور الليلي قوة من الجنود الإيرانيين تتقدم نحو ملجئه ، فهرب ، لكي لا يصبح صيدا ثمينا في قبضتهم . ولئلا تقع تلك الخطة في يد الأعداء فيكون مصيره ومصيرنا الهلاك المحتوم .. في الحقيقة إن الله وحده هو الذي نجاني وأنقذني من تلك المغامرة الخطيرة ، وبسبب سذاجتي وقلة خبرتي في جبهات القتال .. وبسبب حبي الكبير وتعلقي بمن أحببت ، أقدمت على المجازفة بحياتي لكي احظي بأجازة لقضاء اكبر وقتا مع حبيبتي .. هناك على ضفاف نهر دجلة في الموصل ..
ولو كنت قد تأخرت عشرة دقائق أخرى لكنت الآن في خبر كان وتحولت إلى أشلاء ممزقة ، بسبب تلك الخطة المرسومة ، والتي تقضي بالانسحاب الجزئي .. ثم دك تلك المواقع بالمدفعية الثقيلة .... علما بأن السيد الآمر لم يُعلم أحدا من القادة والمراجع بأمر فقدان الخطة الأمنية .. وأنه أرسل من يعيدها ....
شرق البصرة \ 1987
الفسُحـة ...
ينتابه قلقٌ واضطرابٌ شديدين ، في انتظار أن يحين يوم أجازته ، لكي يسافر إلى مدينتـــــــه ( البصرة ) البعيدة القابعة في أقصى الجنوب ، لأنه ، هناك ، سيلتقي حبيبته في السفرة العائلية المرتقبة التي تنظمها إحدى الجمعيات الخيرية ... لكن الأيام لا تمّر ، إلا ببطءٍ ثقيل ...، فانتظر ، إلى أن حان ذلك اليوم ، وأُذِنَ له بالسفر من قبل مرؤوسيه في العمل ، فحزم أمتعته وأشيائه وأشلائه المعذبة الممزقة ، وأنطلق مكبّلا بهمومه وأثقاله ، صوب محطات الجنوب ، في رحلة طويلة شاقة ..، حتى وصل مدينته الحبيبة التي غاب عنها طويلا ، ثم التقى حبيبته عشيّه يوم السفرة المرتقبة ، لكن ذلك اللقاء كان سريعا خاطفا ، لأنها كانت برفقة والديها ، وفي مكان مكتظ بالناس ، فلم يجرؤ أو لم يتسنى له التحدث معها ، إلا انه استطاع أن يكسر حاجز الخوف ، وطوق الحصار المفروض حولها ، أن أومأ لها بإشارةٍ مؤكداً لها حتمية اللقاء غدا ....
منذ صباح اليوم التالي ومع جوّ مفعم بنسمات ربيعية وشمس دافئة خجولة ، خرج متهيئا ، هُماما ، قاصدا موقف الحافلات التي ستقلّهم إلى البر البعيد ، في خارج المدينة ، إلى منطقة صحراوية ، تسمى الأثل ، لوجود أشجار قصيرة فيها تسمى الأثل..... فكان هو أول الحاضرين ، ينتظرها في ساحة التجمع والانطلاق .. كانت الدقائق تمر بطيئة ..، وعيناه جامدتان مسمّرتان على الطريق الذي يؤول إلى بيتها ، والذي سوف تأتي منه حتما ، حينما كانت حشود الناس تتجمهر قرب الحافلات .. ، فلم يهدأ له بال ، حتى لاحت لناظريه من بعيد بصحبة والديها وشقيقها الأكبر ، وشقيقتها الصغرى ، وهي تتقدم بهدوء محملة ببعض أمتعة واحتياجات السفرة .... ومن بعيد التقت عيناهما ، وتبادلا نظراتٍ عميقة ، مرهفة ، يشوبها الحزن والشوق والحنين والحرمان ... لا بل التقى القلبان المعذبان ، النابضان بقوة ودفئ الحب الذي يسري في أعمق أعماقهما .... ولما حظر كل الناس واكتمل عددهم ، تحركت الحافلات تباعا في طريقها إلى البر البعيد خارج المدينة .
وهناك ، في نهاية المطاف .. ، وبعد أن ترجّل الجميع من الحافلات ، واختاروا أماكنهم مع أمتعتهم بين شجيرات الأثل ..، بدأ على الفور يبحث عن مكان وجودها ، حتى رآها ، ورأته مقبلا نحوها من بعيد ، فأقترب يخطو بالقرب من مكان تواجدها ، وبغفلة من أنظار شقيقها ووالدتها ، أومأ أليها بإشارة من إصبعه ، وتحرك مُسرع الخطى يتقدمها ، فتبعته بتمهل ، حتى أبطأ قليلا ، فأدركته ، وسارا معا مبتعدين عن الناس إلى أن تواريا عن الأنظار خلف شجيرات الأثل النائية .
قال .. هاتي يدك...
وضعت كفها بكفه ... فتشابكت الراحتان بقوة .. كانت كفها بيضاء مكتنزة ملساء دافئة .. ، وتحت شجرة قاصية وارفة ، جلسا ليستريحا .... قال لها بنبرة آمرة .. اقتربي مني قليلا ..
اقتربت منه حتى ألصقت جنبها الأيمن بجسده من الناحية اليسرى ... ، فأحس بدفئها وحرارة جسدها ..، أخذ راحتها البيضاء المدورة بكلتا يديه ، وبدأ يمسدها برفق ، وينظر إلى أناملها المطلية بالأحمر القاني بعناية ودقة ... ثم رفع كفها بحنوٍ إلى فمه ، وقبلها مرة ومرتين وثلاث .. ثم قبّل راحة يدها ، والصقها على فمه ، كأنه يستنشق عطرها وعبيرها مثل زهرة فواحة يانعة ...، ولكنها لم تمانع من ذلك الفعل ...، فشعر بنشوة عارمة تسري في جسده ، بينما بدأ جسدها يسخن بسرعة وتوردت وجنتيها واحمرت حياءً وخجلاً ، لكنها كانت راضية كل الرضا ومستسلمة لكل ما يفعله معها ، كونها تحبه لاكثر من عامين ، ويحبها بكل جوارحه ، لكن شاء القدر أن يبعده عنها ، بعد تخرّجه ، وبسبب تعيينه بوظيفته في محافظة بعيدة في الشمال ... ، لكنه لم ينقطع عنها كثيرا، فكان يزاورها أو يلتقي معها خلسة ويهفو إليها دائما ، كلما عاد بأجازة من عمله ...، عندما وجدها استساغت الأمر، ولم تمانع من أن يمسّد ويقبل راحة يدها وكفها الجميلة البيضاء المدورة ، وأناملها الرقيقة الجميلة .. ، تمادى في غيّه وطمع في المزيد من الاستمتاع ... ، ثم قال ... دعيني أن أنام برهة في حضنك الدافئ ... ترددت قليلا ..، في بادئ الأمر... لكنه أصرّ على أن يفعل ... ، فدفع برأسه إلى حضنها بلهفة وحنوّ ، فشعرت بقشعريرة ورعشة تسري في جسدها ، فوضعت كلتا يديها تحت رأسه ، لكنه امسك بإحداها وسحبها إلى شفتيه وأخذ يقبلها بحرارة وشوق ، فسقط رأسه في حضنها الدافئ ..... تحركت أناملها تحبو بهدوء متلمّسة تقاسيم وجهه وذقنه الحليق .. ، وتمرر سبابتها على شفتيه وهو يقبلها ، تارة وتعبث بأناملها بخصلات شعره السبل ، ثم تجرأ وقال مرة أخرى ... أريد أن أقبلك من فمك ..! انتفضت غاضبة وهي تهم بالانصراف ... ، لكنه لاذ بالاعتذار وهو يرجوها أن تمنحه برهة ًمن الوقت ، كي يظلّّ رأسه مرتاحا في حضنها ، متمتعا باستنشاق عطرها ورائحة جسدها العبقة برائحة البراءة والطفولة ، فكانت تلك اللحظات الجميلة من اسعد وأعمق اللحظات ، لم يعش مثلها لحظات جميلة في حياته قط .
قالت بغنج ، وهي تفتعل الغضب .. إذا تريد منّي البقاء معك ، كف عن طلباتك الملحّة هذه ..هناك في البعيد القريب ... وبين شجيرات الأثل ، كان نفر من الناس يخطفون ذهابا وإيابا ، كالأشباح ... وثمة بعض الصبية يلعبون الكرة ، ولكن عندما جال نظرهما ، مستكشفان ما حولهما ، اكتشفا ، وبالقرب منهما ... وتحت شجرة مجاورة ، ثمة عاشقان يافعان ، يتبادلان القبلات بحرارة ..!
فتشجعا ، إذ رأيا ذلك المشهد ...قال ... حبيبتي ..؟
أجابت نعم ...
قال ... هل تحبينني ...؟
قالت .. وهي تطبق شفتيها ، وتهمس له بصوت خافت .. أحبك..أحبك ..
قال ... أرجوك أن تقوليها بصوت عال ... أحب أن أسمعها عشرات المرات وبأعلى صوتك..
تنهدت بحسرة وحرقة ... وترقرقت عيناها بالدموع ... وقبل أن تتفوه بشيء..، وضع كفه على فمها ... وقال ... كفى .. كفى .. لا تقولي شيئا .. لقد تأكدت من حبك لي من بريق عينيك وتنهدات قلبك .... لكنها قبّلت أنامله التي اصطبغت بلون شفتيها الأحمر القاني ، وانحدرت على خديها دمعتان حارقتان ...
قال ... حبيبتي ...
قالت ماذا .....
قال ... أريد أن أموت الآن ..
قالت ... حاشاك حبيبي .... ، وهي تداعب شعره الخفيف وتمرر أصابعها بين ثناياه برفق وحنو ، وهي ترتعد ، وتشعر بلذة عارمة وقشعريرة تدب في جسدها المكتنز ، والذي بدأ يسخن كثيرا بسبب تدفق الدم بغزارة في أوصالها ..
رفع رأسه من حضنها ... ، وبدأ ينظر إلى وجهها القمري ، الناصع البياض ، ويتفرّس في ملامحها الحزينة ، ويحدق في عينيها الدامعتين ، ويمسح دمعها من خدها ... فأحتضنها وضم جسدها إلى جسده بكلتا يديه وأخذ يقبل شفتيها بحرارة وشوق ولهفة ، حتى شرب من رحيق روحها العطشى المعذبة .... كانت شفتاها كجمرتين مستعرتين ...، عندما كادت ان تغيب عن وعيها ، امتدت يده لتفك ازرار قميصها الشفاف بهدوء ، حتى اصابها نوع من الخدرالحذِر، فتمددت على الارض ، بما يشبه الغيبوبة ، وهي تتنهد وترتعش من نشوة عارمة تسري في جسدها ..، وما انفك يلهب ثغرها وصدرها وثدييها المكتنزين المدورين بأحر القبلات .. حينما كانت الشمس تبسط أشعتها الربيعية الدافئة على أرجاء المكان ... بدءا يذوبان كذوبان الجليد بدفء الحب .. ثم يتساميان ، ليصبحا قطرة دمع ونبع واحدة ...
البصرة
الهاجس ...
كان يراودني هاجسٌ ، يُقلقني .... وأملٌ كبير، وتحدياً يدفعني للمقامرة ... ، أن اقهر جبل مكحول ، وارتقي قمته العالية ... وانظر من هناك إلى ما خلف الجبل ، وما تحته ، والتقط صورا للعالم الواسع من فوق ، كالنسر المحلق في السماء .... ومرت أيام الصبر والانتظار الطويل ، حتى جاء ذلك اليوم الذي يُسمح فيه بالصعود إلى الجبل ، وهو يوم واحد محدد في العام ، يوم تذكار الربان هرمزد ...، وسافرت من كركوك إلى الموصل قبل يوم ...، وفي اليوم التالي ، استأجرت سيارة أجرة ، مع بعض أفراد عائلتي ، من الموصل إلى جبل القوش ، حيث يقع الدير ، وهناك كان الزحام على أشده ... ، الآلاف من الزوار ، مَن قدموا من كل محافظات العراق ، ومن خارج البلد ..، وبعد أن مكثت قليلا مع عائلتي ، تركت العالم الضاج من حولي وانطلقت راجلا لتحقيق أمنيتي ، صعودا تدريجيا ، حتى وصلت مع العشرات ، إلى صدر الجبل حيث مزار الربان هرمزد .. وزرت الأماكن المقدسة مع الزوار، ودخلت أقبية الدير والمغاور ا
ناظم هرمز كورو- عدد الرسائل : 178
الموقع : لبنان - بيروت u k m k
تاريخ التسجيل : 03/06/2011
مواضيع مماثلة
» جميل فرنسيس زورا و الجزء الثاني من هدوء العاصفة
» من الذاكرة { معركة الديكة } بقلم جميل فرنسيس زورا - تللسقف
» فرح مفقود بقلم جميل فرنسيس
» قصيدة للشاعر جميل فرنسيس الليل
» ( حوار الغروب مع الشاعر والكاتب والصحفي جميل فرنسيس)
» من الذاكرة { معركة الديكة } بقلم جميل فرنسيس زورا - تللسقف
» فرح مفقود بقلم جميل فرنسيس
» قصيدة للشاعر جميل فرنسيس الليل
» ( حوار الغروب مع الشاعر والكاتب والصحفي جميل فرنسيس)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى